فكذبهم الله بقوله ٦٣ - ﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ من النفاق والعداوة للحق قال الزجاج : معناه قد علم الله أنهم منافقون ﴿ فأعرض عنهم ﴾ أي : عن عقابهم وقيل : عن قبول اعتذارهم ﴿ وعظهم ﴾ أي : خوفهم من النفاق ﴿ وقل لهم في أنفسهم ﴾ أي : في حق أنفسهم وقيل معناه : قل لهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم ﴿ قولا بليغا ﴾ أي : بالغا في وعظهم إلى المقصود مؤثرا فيهم وذلك بان توعدهم بسفك دمائهم وسبي نسائهم وسلب أموالهم
٦٤ - ﴿ وما أرسلنا من رسول ﴾ من زائدة للتوكيد ﴿ إلا ليطاع ﴾ فيما أمر به ونهى عنه ﴿ بإذن الله ﴾ بعلمه وقيل : بتوفيقه ﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ﴾ بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك ﴿ جاءوك ﴾ متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم ومخالفتهم ﴿ فاستغفروا الله ﴾ لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعا لهم فاستغفرت لهم وإنما قال ﴿ واستغفر لهم الرسول ﴾ على طريقة الإلتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه و سلم ﴿ لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ أي : كثير التوبة عليهم والرحمة لهم
قوله ٦٥ - ﴿ فلا وربك ﴾ قال ابن جرير : قوله ﴿ فلا ﴾ رد على ما تقدم ذكره تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ثم استأنف القسم بقوله ﴿ وربك لا يؤمنون ﴾ وقيل : إنه قدم لا على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته ثم كرره بعد القسم تأكيدا وقيل : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي والتقدير : فوربك لا يؤمنون كما في قوله :﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم ﴾ ﴿ حتى يحكموك ﴾ أي جعلوك حكما بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحدا غيرك وقيل : معناه يتحاكمون إليك ولا ملجئ لذلك ﴿ فيما شجر بينهم ﴾ أي اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لاختلاف أغصانه ومنه قول طرفة :

( وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر )
أي المخلتلف ومنه تشاجر الرماح : أي اختلافها ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ﴾ قيل : هو معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام : أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا والحرج : الضيق وقيل الشك ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجة وجمعها حراج وقيل الحرج : الإثم أي لا يجدون في أنفسهم إثما بإنكارهم ما قضيت ﴿ ويسلموا تسليما ﴾ أي : ينقادوا لأمرك وقضائك انقيادا لا يخالفونه في شيء قال الزجاج :﴿ تسليما ﴾ مصدر مؤكد : أي ويسلمون لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا ولا شبهة فيه والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم كما يؤيد ذلك قوله ﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾ وأما بعد موته فتحكيم الكتاب والسنة وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة أو في أحدهما وكان يعقل ما يرد عليه من حجج الكتاب والسنة بأن يكون عالما باللغة العربية وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفا بما يحتاج إليه من علم الأصول بصيرا بالسنة المطهرة مميزا بين الصحيح وما يلحق به والضعيف وما يلحق به منصفا غير متعصب لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل ورعا لا يحيف ولا يميل في حكمه فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوة مترجم عنها حاكم بأحكامها وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة فإنه أولا أقسم سبحانه بنفسه مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ﴾ فضم إلى التحكيم أمرا آخر هو عدم وجود حرج : أي حرج في صدورهم فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانئلاج قلب وطيب نفس ثم لم يكتف بهذا كله بل ضم إليه قوله ﴿ ويسلموا ﴾ أي : يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا ثم لم يكتف بذلك بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال :﴿ تسليما ﴾ فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ويسلم لحكم الله وشرعه تسليما لا يخالطه رد ولا تشويه مخالفة
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند قال السيوطي : صحيح عن ابن عباس قال : كان برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون ﴾ الآية وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعقب بن قشير ورافع بن زيد كانوا يدعون الإسلام فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية فنزلت الآية المذكورة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله ﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾ قال : الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له : كعب بن الأشرف وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا : بل نحاكمكم إلى كعب فنزلت الآية وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن عبد الله بن الزبير :[ أن الزبير خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في شراج من الحرة وكانا يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري : سرح الماء
يمر فأبى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعى رسول الله صلى الله عليه و سلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ رسول الله الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن الأسود : أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلان فقضى بينهما فقال المقضي عليه : ردنا إلى عمر فردهما فقتل عمر الذي قال ردنا ونزلت الآية فأهدر النبي صلى الله عليه و سلم دم المقتول وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول فذكر نحوه وبين أن الذي قتله عمر كان منافقا وهما مرسلان والقصة غريبة وابن لهيعة فيه ضعف


الصفحة التالية
Icon