وقد أجمع على ذلك المسلمون إجماعا لا شك فيه ولا شبهة وأجمعوا أيضا على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمرا وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر دلت أيضا على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله : ٩١ - ﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ﴾ ومن المفاسد الدينية بقوله :﴿ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ﴾ قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ فيه زجر بليغ يفيده الاستفهام الدال على التقريع والتوبيخ ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع هذا : انتهينا
ثم أكد الله سبحانه هذا التحريم بقوله : ٩٢ - ﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ﴾ أي مخالفتهما : أي مخالفة الله ورسوله فإن هذا وإن كان أمرا مطلقا فالمجيء به في هذا الموضع يفيد ما ذكرناه من التأكيد وهكذا ما أفاده بقوله :﴿ فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ﴾ أي إن أعرضتم عن الامتثال فقد فعل الرسول ما هو الواجب عليه من البلاغ الذي فيه رشادكم وصلاحكم ولم تضروا بالمخالفة إلا أنفسكم وفي هذا من الزجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه
قوله : ٩٣ - ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ أي من المطاعم التي يشتهونها والطعم وإن كان استعماله في الأكل أكثر لكنه يجوز استعماله في الشرب ومنه قوله تعالى :﴿ ومن لم يطعمه فإنه مني ﴾ أباح الله سبحانه لهم في هذه الآية جميع ما طعموا كائنا ما كان مقيدا بقوله :﴿ إذا ما اتقوا ﴾ أي اتقوا ما هو محرم عليهم كالخمر وغيره من الكبائر وجميع المعاصي ﴿ وآمنوا ﴾ بالله ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ من الأعمال التي شرعها الله لهم : أي استمروا على عملها قوله :﴿ ثم اتقوا ﴾ عطف على اتقوا الأول : أي اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه كان مباحا فيما سبق ﴿ وآمنوا ﴾ بتحريمه ﴿ ثم اتقوا ﴾ ما حرم عليهم بعد التحريم المذكور قبله مما كان مباحا من قبل ﴿ وأحسنوا ﴾ أي اعملوا الأعمال الحسنة هذا معنى الآية وقيل التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة وقيل إن التكرير باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى وقيل إن التكرار باعتبار ما يتقيه الإنسان فإنه ينبغي له أن يترك المحرمات توقيا من العذاب والشبهات توقيا من الوقوع في الحرام وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة وقيل إنه لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى :
﴿ كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون ﴾ هذه الوجوه كلها مع قطع النظر عن سبب نزول الآية إما مع النظر إلى سبب نزولها وهو أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة : كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ؟ فنزلت فقد قيل : إن المعنى ﴿ اتقوا ﴾ الشرك ﴿ وآمنوا ﴾ بالله ورسوله ﴿ ثم اتقوا ﴾ الكبائر ﴿ وآمنوا ﴾ أي ازدادوا إيمانا ﴿ ثم اتقوا ﴾ الصغائر ﴿ وأحسنوا ﴾ أي تنفلوا قال ابن جرير الطبري : الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال :[ نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيء ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر ﴾ الآية فقيل حرمت الخمر فقيل : يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ فقيل حرمت الخمر فقالوا : يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر ﴾ الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حرمت الخمر ] وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات وذكر نحو حديث ابن عمر [ فقال الناس : يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على
فراشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان فأنزل الله :﴿ ليس على الذين آمنوا ﴾ الآية وقال النبي صلى الله عليه و سلم : لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : في نزل تحريم الخمر صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا ناسا فأتوه فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل أن تحرم الخمر فتفاخروا فقالت الأنصار : الأنصار خير من المهاجرين وقال قريش : قريش خير فأهوى رجل بلحي جمل فضرب على أنفي فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فنزلت هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ﴾ الآية وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : أنزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن والله لو كان بي رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ﴾ إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ فقال ناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان قتل يوم بدر وفلان قتل يوم أحد فأنزل الله هذه الآية :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ الآية وقد رويت في سبب النزول روايات كثيرة موافقة لما قد ذكرناه وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : الميسر هو القمار كله وأخرج ابن مردويه عن وهب بن كيسان قال : قلت لجابر متى حرمت الخمر ؟ قال : بعد أحد وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : نزل تحريم الخمر في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : النرد والشطرنج من الميسر وأخرج عبد بن حميد عن علي قال : الشطرنج ميسر الأعاجم وأخرج ابن أبي حاتم عن القاسم بن محمد أنه سئل عن النرد أهي من الميسر ؟ قال : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي في الشعب عنه أيضا أنه قيل له : هذه النرد تكرهونها فما بال الشطرنج ؟ قال : كل ما ألهي عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر وأخرجوا أيضا عن ابن الزبير قال : يا أهل مكة بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها النردشير والله يقول في كتابه :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ﴾ إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ وإني أحلف بالله لا أوتي بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره وأعطيت سلبه من أتاني به وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن أنس قال : الشطرنج من النرد بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فأحرقها وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي جعفر أنه سئل عن الشطرنج فقال : تلك المجوسية فلا تلعبوا بها وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله ] وأخرج أحمد عن عبد الرحيم الخطمي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :[ مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر قال : اللاعب بالنرد قمارا كآكل لحم الخنزير واللاعب بها من غير قمار كالمدهن بودك الخنزير وأخرج ابن أبي الدنيا عن يحيى بن كثير قال :[ مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوم يلعبون بالنرد فقال قلوب لاهية وأيدي عليلة وألسنة لاغية ] وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن قتادة قال : الميسر القمار وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طريق ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد قالوا : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن سيرين قال : القمار من الميسر وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن يزيد بن شريح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :[ ثلاث من الميسر : الصفير بالحمام والقمار والضرب بالكعاب ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأنصاب حجارة كانوا يذبحون لها والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها الأمور وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كانت لهم حصيات إذا أراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الأزلام قال : هي كعاب فارس التي يقتمرون بها وسهام العرب وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الخمر وشاربها والوعيد الشديد عليه وأن كل مسكر حرام وهي مدونة في كتب الحديث فلا نطول المقام بذكرها فلسنا بصدد ذلك بل نحن بصدد ما هو متعلق بالتفسير


الصفحة التالية
Icon