قوله : ٥ - ﴿ اليوم أحل لكم الطيبات ﴾ هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله :﴿ أحل لكم الطيبات ﴾ وقد تقدم بيان الطيبات قوله :﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾ الطعام : اسم لما يؤكل ومنه الذبائح وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزير وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول وقال علي وعائشة وابن عمر : إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل وهو قول طاوس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ ويدل عليه أيضا قوله :﴿ وما أهل لغير الله به ﴾ وقال مالك : إنه يكره ولا يحرم فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله وأما مع عدم العلم فقد حكى الكيا الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية ولما ورد في السنة من أكله صلى الله عليه و سلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح وكذلك الجراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي صلى الله عليه و سلم وهو في الصحيح أيضا وغير ذلك والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى وأما المجوس فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم وخالف في ذلك أبو ثور وأنكر عليه الفقهاء ذلك حتى قال أحمد بن حنبل : أبو ثور كاسمه يعني في هذه المسألة وكأنه تمسك بما يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا أنه قال في المجوس : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولم يثبت بهذا اللفظ وعلى فرض أن له أصلا ففيه زيادة تدفع ما قاله وهي قوله غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم وقد رواه بهذه الزيادة جماعة ممن لا خبرة له بفن الحديث من المفسرين والفقهاء ولم يثبت الأصل ولا الزيادة بل الذي ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ الجزية من مجوس هجر وأما بنو تغلب فكان علي بن أبي طالب ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب وكان يقول : إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ وجذام ولحم وعاملة ومن أشبههم قال ابن كثير : وهو قول غير واحد من السلف والخلف وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب وقال القرطبي : وقال جمهور الأمة إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم وكذلك اليهود قال : ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام يجوز أكله قوله :﴿ وطعامكم حل لهم ﴾ أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم وهذا من باب المكافأة والمجازاة وإخبار المسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعراض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية قوله :﴿ والمحصنات من المؤمنات ﴾ اختلف في تفسير المحصنات هنا فقيل العفائف وقيل الحرائر وقرأ الشعبي بكسر الصاد وبه قرأ الكسائي وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في البقرة والنساء والمحصنات مبتدأ ومن المؤمنات وصف له والخبر محذوف أي حل لكم وذكرهن هنا توطئة وتمهيدا لقوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ والمراد بهن الحرائر دون الإماء هكذا قال الجمهور وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف أن هذه الآية تعم كل كتابية حرة أو أمة وقيل المراد بأهل الكتاب هنا الإسرائيليات وبه قال الشافعي وهو تخصيص بغير مخصص وقال عبد الله بن عمر : لا تحل النصرانية قال : ولا أعلم شركا أكبر من أن تقول ربها عيسى وقد قال الله :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ الآية ويجاب عنه بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات فيبنى العام على الخاص وقد استدل من حرم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية لأنه حملها على الحرائر وبقوله تعالى :﴿ فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم وخالفهم من قال : إن الآية تعم أو تخص العفائف كما تقدم والحاصل أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال إلا على قول ابن عمر في النصرانية ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة والأمة العفيفة على قول من يقول : إنه يجوز استعمال المشرك في كلا معنييه وأما من لم يجوز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو غير عفيفة إلا بدليل آخر ويقول بجواز نكاح الحرة العفيفة كانت أو غير عفيفة وإن حمل المحصنات هنا على العفائف قال بجواز نكاح الحرة العفيفة والأمة العفيفة دون غير العفيفة منهما قوله :﴿ إذا آتيتموهن أجورهن ﴾ أي مهورهن وجواب إذا محذوف : أي فهن حلال أو هي ظرف الخبر المحصنات المقدر : أي حل لكم قوله :﴿ محصنين ﴾ منصوب على الحال : أي حال كونكم أعفاء بالنكاح وكذا قوله :﴿ غير مسافحين ﴾ منصوب على الحال من الضمير في محصنين أو صفة لمحصنين والمعنى : غير مجاهرين بالزنا قوله :﴿ ولا متخذي أخدان ﴾ معطوف على ﴿ غير مسافحين ﴾ أو على ﴿ مسافحين ﴾ ﴿ ولا ﴾ مزيدة للتأكيد والخدن يقع على الذكر والأنثى : أي لم يتخذوا معشوقات فقد شرط الله في الرجال العفة وعدم المجاهرة بالزنا وعدم اتخاذ أخدان كما شرط في النساء أن يكن محصنات ﴿ ومن يكفر بالإيمان ﴾ أي بشرائع الإسلام ﴿ فقد حبط عمله ﴾ أي بطل ﴿ وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ وقرأ ابن السميفع فقد حبط بفتح الباء اهـ
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه [ عن أبي رافع : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بقتل الكلاب في الناس فقالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فسكت النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله :﴿ يسألونك ماذا أحل لهم ﴾ الآية ] وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه أخرج أيضا عن محمد بن كعب القرظي نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فنزلت وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي : أن عدي بن حاتم الطائي أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله فذكر نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله :﴿ وما علمتم من الجوارح مكلبين ﴾ قال : هي الكلاب المعلمة والبازي والجوارح يعني الكلاب والفهود والصقور وأشباهها أخرج ابن جرير عنه قال : آية المعلم أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتي صاحبه وأخرج عنه أيضا قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وأخرج عبد بن حميد عنه نحوه وزاد : وإذا أكل الصقر فلا تأكل لأن الكلب تستطيع أن تضربه والصقر لا تستطيع وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه في قوله :﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب ﴾ قال : ذبائحهم وفي قوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ قال : حل لكم ﴿ إذا آتيتموهن أجورهن ﴾ يعني مهورهن ﴿ محصنين ﴾ يعني تنكحونهن بالمهر والبينة ﴿ غير مسافحين ﴾ غير متغالين بالزنا ﴿ ولا متخذي أخدان ﴾ يعني يسرون بالزنا وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله :﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ﴾ قال : أحل الله لنا محصنتين محصنة مؤمنة ومحصنة من أهل الكتاب نساؤنا عليهم حرام ونساؤهم لنا حلال وأخرج ابن جرير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ فتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا ] وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عمر بن الخطاب قال : المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة وأخرج الطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : إنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ﴾ قال الحرائر وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال : العفائف