ثم حكى الله سبحانه نوعا ثالثا من تعنتهم وتلاعبهم بآيات الله فقال : ١٥ - ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ﴾ وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم والمراد بالآيات الآيات التي في الكتاب العزيز : أي وإذا تلا التالي عليهم آياتنا الدالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك حال كونها بينات : أي واضحات الدلالة على المطلوب ﴿ قال الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ وهم المنكرون للمعاد وقد تقدم تفسيره قريبا : أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه و سلم ﴿ ائت بقرآن غير هذا أو بدله ﴾ طلبوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم لما سمعوا ما غاظهم فيما تلاه عليهم من القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد الشديد لمن عبدها أحد أمرين : إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض آياته أو كلها ووضع أخرى مكانها مما يطابق إرادتهم ويلائم غرضهم فأمره الله أن يقول في جوابهم ﴿ ما يكون لي ﴾ أي ما ينبغي لي ولا يحل لي أن أبدله من تلقاء نفسي فنفى عن نفسه أحد القسمين وهو التبديل لأنه الذي يمكنه لو كان ذلك جائزا بخلاف القسم الآخر وهو الإتيان بقرآن آخر فإن ذلك ليس في وسعه ولا يقدر عليه وقيل إنه صلى الله عليه و سلم نفى عن نفسه أسهل القسمين ليكون دليلا على نفي أصعبهما بالطريق الأولى وهذا منه صلى الله عليه و سلم من باب مجاراة السفهاء إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء بعد أن أمره الله سبحانه بذلك وهو أعلم بمصالح عباده وبما يدفع الكفار عن هذه الطلبات الساقطة والسؤالات الباردة و ﴿ تلقاء ﴾ مصدر استعمل ظرفا من قبل نفسي قال الزجاج : سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور وقيل : سألوه أن يسقط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وقيل : سألوه أن يحول الوعد وعيدا والحرام حلالا والحلال حراما ثم أمره أن يؤكد ما أجاب به عليهم من أنه ما صح له ولا استقام أن يبدله من تلقاء نفسه بقوله :﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ أي ما اتبع شيئا من الأشياء إلا ما يوحى إلي من عند الله سبحانه من غير تبديل ولا تحويل ولا تحريف ولا تصحيف فقصر حاله صلى الله عليه و سلم على اتباع مايوحى إليه وربما كان مقصد الكفار بهذا السؤال التعريض للنبي صلى الله عليه و سلم بأن القرآن كلامه وأنه يقدر على الإتيان بغيره والتبديل له ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم تكميلا للجواب عليهم :﴿ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾ فإن هذه الجملة كالتعليل لما قدمه من الجواب قبلها واليوم العظيم هو يوم القيامة : أي ﴿ إني أخاف إن عصيت ربي ﴾ بفعل ما تطلبون على تقدير إمكانه عذاب يوم القيامة
ثم أكد سبحانه كون هذا القرآن من عند الله وأنه صلى الله عليه و سلم إنما يبلغ إليهم منه ما أمره الله بتبليغه لا يقدر على غير ذلك فقال : ١٦ - ﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ﴾ أي أن هذا القرآن المتلو عليكم هو بمشيئة الله وإرادته ولو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ولا أبلغكم إياه ما تلوته فالأمر كله منوط بمشيئة الله ليس لي في ذلك شيء قوله :﴿ ولا أدراكم به ﴾ معطوف على ما تلوته ولو شاء الله ما أدراكم بالقرآن : أي ما أعلمكم به على لساني يقال : دريت الشيء وأدراني الله به هكذا قرأ الجمهور بالألف من أدراه يدريه أعلمه يعلمه وقرأ ابن كثير ﴿ ولا أدراكم به ﴾ بغير ألف بين اللام والهمزة والمعنى : ولو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم فتكون اللام لام التأكيد دخلت على ألف أفعل وقد قرئ أدرؤكم بالهمزة فقيل : هي منقلبة عن الألف لكونهما من واد واحد ويحتمل أن يكون من درأته إذا دفعته وأدرأته إذا جعلته داريا والمعنى : لأجعلكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال وتكذبونني وقرأ ابن عباس والحسن ﴿ ولا أدراكم به ﴾ قال أبو حاتم : أصله ولا أدريتكم به فأبدل من الياء ألفا قال النحاس : وهذا غلط والرواية عن الحسن ولا أدرأتكم بالهمزة قوله :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ﴾ تعليل لكون ذلك بمشيئة الله ولم يكن من النبي صلى الله عليه و سلم إلا التبليغ : أي قد أقمت فيما بينكم عمرا من قبله : أي زمانا طويلا وهو أربعون سنة من قبل القرآن تعرفونني بالصدق والأمانة لست ممن يقرأ ولا ممن يكتب ﴿ أفلا تعقلون ﴾ الهمزة للتقريع والتوبيخ : أي أفلا تجرون على ما يقتضيه العقل من عدم تكذيبي لما عرفتم من العادة المستمرة إلى المدة الطويلة بالصدق والأمانة وعدم قراءتي للكتب المنزلة على الرسل وتعلمي لما عند أهلها من العلم ولا طلبي لشيء من هذا الشأن ولا حرصي عليه ثم جئتكم بهذا الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بسورة منه وقصرتم عن معارضته وأنتم العرب المشهود لهم بكمال الفصاحة المعترف لهم بأنهم البالغون فيها إلى مبلغ لا يتعلق به غيركم ؟
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ ولو يعجل الله للناس الشر ﴾ الآية قال : هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم : اللهم لا تبارك فيه والعنه ﴿ لقضي إليهم أجلهم ﴾ قال : لأهلك من دعا عليه وأماته وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال : قول الرجل للرجل : اللهم العنه اللهم اخزه وهو يحب أن يستجاب له وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هو دعاء الرجل على نفسه وما له بما يكره أن يستجاب له وحكى القرطبي في تفسيره عن ابن إسحاق ومقاتل في الآية قالا : هو قول النضر بن الحارث :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ فلو عجل لهم هذا لهلكوا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله :﴿ دعانا لجنبه ﴾ قال : مضطجعا وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله :﴿ دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ﴾ قال : على كل حال وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال : ادع الله يوم سرائك يستجاب لك يوم ضرائك
وأقول أنا : أكثر من شكر الله على السراء يدفع عنك الضراء فإن وعده للشاكرين بزيادة النعم مؤذن بدفعه عنهم النقم لذهاب حلاوة النعمة عند وجود مرارة النقمة : اللهم اجمع لنا بين جلب النعم وسلب النقم فإنا نشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان ونحمدك عدد ما حمدك الحامدون بكل لسان في كل زمان وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله :﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض ﴾ الآية قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية فقال : صدق ربنا ما جعلنا خلائف في الأرض إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله خير أعمالكم بالليل والنهار والسر والعلانية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال :﴿ خلائف في الأرض ﴾ لأمة محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله :﴿ ائت بقرآن غير هذا أو بدله ﴾ قال : هذا قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله :﴿ ولا أدراكم به ﴾ أعلمكم به وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال :﴿ ولا أدراكم به ﴾ ولا أشعركم به وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن ابن عباس أنه كان يقرأ :( ولا أنذرتكم به ) وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ﴾ قال : لم أتل عليكم ولم أذكر وأخرجا عنه قال : لبث أربعين سنة قبل أن يوحى غليه ورأى الرؤيا سنتين وأوحى الله إليه عشر سنين بمكة وعشرا بالمدينة وتوفي وهو ابن اثنتين وستين سنة وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري والترمذي عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاثة عشر يوحى غليه ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة