ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار وذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا ٤٨ - ﴿ يقولون متى هذا الوعد ﴾ والاستفهام منهم للإنكار والاستبعاد وللقدح في النبوة ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ خطابا منهم للنبي صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادة الشبهة ويقطع اللجاج فقال : ٤٩ - ﴿ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ﴾ أي لا أقدر على جلب نفع لها ولا دفع ضر عنها فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري وقدم الضر لأن السياق لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه والاستثناء في قوله :﴿ إلا ما شاء الله ﴾ منقطع كما ذكره أئمة التفسير : أي ولكن ما شاء الله من ذلك كان فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضرا أو نفعا وفي هذه أعظم واعظ وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه و سلم والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه و سلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين ورزقهم وأحياهم ويميتهم فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب لرب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطي المانع ؟ وحسبك بما في هذه الآية موعظة فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده : لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا فكيف يملكه لغيره وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه فضلا عن أن يملكه لغيره فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز و جل ؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ولا يتنبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله ومدلول ﴿ قل هو الله أحد ﴾ ؟ وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى بل إلى ما هو أشد منها فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين لهم إليه وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع وينادونهم تارة على الاستقلال وتارة مع ذي الجلال وكفاك من شر سماعه والله ناصر دينه ومطهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة ﴿ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾ ﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ ثم بين سبحانه أن لكل طائفة حدا محدودا لا يتجاوزونه فلا وجه لاستعجال العذاب فقال :﴿ لكل أمة أجل ﴾ فإذا جاء ذلك الوقت أنجز وعده وجازى كلا بما يستحقه والمعنى : أن لكل أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم أو بين بعضهم البعض أجلا معينا ووقتا خاصا يحل بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله ﴿ إذا جاء أجلهم ﴾ أي ذلك الوقت المعين والضمير راجع إلى كل أمة ﴿ فلا يستأخرون ﴾ عن ذلك الأجل المعين ﴿ ساعة ﴾ أي شيئا قليلا من الزمان ﴿ ولا يستقدمون ﴾ عليه وجملة لا يستقدمون معطوفة على جملة لا يستأخرون ومثله قوله تعالى :﴿ ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ﴾ والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدم في تفسير الآية التي في أول الأعراف فلا نعيده
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله :﴿ يتعارفون بينهم ﴾ قال : يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه لا يستطيع أن يكلمه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ وإما نرينك ﴾ الآية قال : سوء العذاب في حياتك ﴿ أو نتوفينك ﴾ قبل ﴿ فإلينا مرجعهم ﴾ وفي قوله :﴿ ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم ﴾ قال : يوم القيامة


الصفحة التالية
Icon