قوله : ١٦ - ﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ﴾ الإشارة إلى المريدين المذكورين ولا بد من تقييد هذا بأنهم لم يريدوا الآخرة بشيء من الأعمال المعتد بها الموجبة للجزاء الحسن في الدار الآخرة أو تكون الآية خاصة بالكفار كما تقدم ﴿ وحبط ما صنعوا ﴾ أي ظهر في الدار الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت صورتها صورة الطاعات الموجبة للجزاء الأخروي لولا أنهم أفسدوها بفساد مقاصدهم وعدم الخلوص وإرادة ما عند الله في دار الجزاء بل قصروا ذلك على الدنيا وزينتها ثم حكم سبحانه ببطلانه عملهم فقال :﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ أي أنه كان عملهم في نفسه باطلا غير معتد به لأنه لم يعمل لوجه صحيح يوجب الجزاء ويترتب عليه ما يترتب على العمل الصحيح
قوله : ١٧ - ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ بين سبحانه أن بين من كان طالبا للدنيا فقط ومن كان طالبا للآخرة تفاوتا عظيما وتباينا بعيدا والمعنى : أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه و سلم والإيمان بالله كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها وقيل : المراد بمن كان على بينة من ربه النبي صلى الله عليه و سلم : أي أفمن كان معه بيان من الله ومعجزة كالقرآن ومعه شاهد كجبريل وقد بشرت به الكتب السالفة كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ومعنى البينة : البرهان الذي يدل على الحق والضمير في قوله :﴿ ويتلوه شاهد ﴾ راجع إلى البينة باعتبار تأويلها بالبرهان والضمير في منه راجع إلى القرآن لأن قد تقدم ذكره في قوله :﴿ أم يقولون افتراه ﴾ أو راجع إلى الله تعالى والمعنى : ويتلو البرهان الذي هو البينة شاهد يشهد بصحته من القرآن أو من الله سبحانه والشاهد : هو الإعجاز الكائن في القرآن أو المعجزات التي ظهرت لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإن ذلك من الشواهد التابعة للقرآن وقال الفراء : قال بعضهم : ويتلوه شاهد منه الإنجيل وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق والهاء في منه لله عز و جل وقيل : المراد بمن كان على بينة من ربه : هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه قوله :﴿ ومن قبله كتاب موسى ﴾ معطوف على شاهد والتقدير : ويتلو الشاهد شاهد آخر من قبله هو كتاب موسى فهو وإن كان متقدما في النزول فهو يتلو الشاهد في الشهادة وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخرا في الوجود لكونه وصفا لازما غير مفارق فكان أغرق في الوصفية من كتاب موسى ومعنى شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد صلى الله عليه و سلم وأخبر بأنه رسول من الله قال الزجاج : والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى لأن النبي صلى الله عليه و سلم موصوف في كتاب موسى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ :﴿ ومن قبله كتاب موسى ﴾ بالنصب وحكاه المهدوي عن الكلبي فيكون معطوفا على الهاء في يتلوه والمعنى : ويتلو كتاب موسى جبريل وانتصاب إماما ورحمة على الحال والإمام : هو الذي يؤتم به في الدين ويقتدى به والرحمة : النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على من أنزله عليهم وعلى من بعدهم باعتبار ما اشتمل عليه من الأحكام الشرعية الموافقة لحكم القرآن والإشارة بقوله :﴿ أولئك ﴾ إلى المتصفين بتلك الصفة الفاضلة وهو الكون على البينة من الله واسم الإشارة مبتدأ وخبره ﴿ يؤمنون به ﴾ أي يصدقونه بالنبي صلى الله عليه و سلم أو بالقرآن ﴿ ومن يكفر به من الأحزاب ﴾ أي بالنبي أو بالقرآن والأحزاب المتحزبون على رسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل مكة وغيرهم أو المتحزبون من أهل الأديان كلها ﴿ فالنار موعده ﴾ أي هو من أهل النار لا محالة وفي جعل النار موعدا إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من أفانين العذاب ومثله قول حسان :
( أوردتموها حياض الموت صاحية | فالنار موعدها والموت لاقيها ) |
وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ قال : لأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أنس في قوله :﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ﴾ قال : نزلت في اليهود والنصارى وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن معبد قال : قام رجل إلى علي فقال : أخبرنا عن هذه الآية :﴿ من كان يريد الحياة الدنيا ﴾ إلى قوله :﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ قال : ويحك ذاك من كان يريد الدنيا لا يريد الآخرة وأخرج النحاس عن ابن عباس ﴿ من كان يريد الحياة الدنيا ﴾ أي ثوابها ﴿ وزينتها ﴾ مالها ﴿ نوف إليهم ﴾ نوفر لهم بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد ﴿ وهم فيها لا يبخسون ﴾ لا ينقصون ثم نسخها ﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء ﴾ الآية وأخرج أبو الشيخ عن السدي مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : من عمل صالحا : التماس الدنيا صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله : أو فيه الذي التمس في الدنيا وحبط عمله الذي كان يعمل وهو في الآخرة من الخاسرين وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نزلت هذه الآية في أهل الشرك وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في قوله :﴿ نوف إليهم أعمالهم ﴾ قال : طيباتهم وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج نحوه وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله :﴿ وحبط ما صنعوا فيها ﴾ قال : حبط ما عملوا من خير وبطل في الآخرة ليس لهم فيها جزاء وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : هم أهل الرياء وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب قال : ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن فقال له رجل : ما نزل فيك ؟ قال : أما تقرأ سورة هود ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ﴾ رسول الله صلى الله عليه و سلم بينة من ربه وأنا شاهد منه وأخرج ابن عساكر وابن مردويه من وجه آخر عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ أفمن كان على بينة من ربه : أنا ويتلوه شاهد منه : علي ] وأخرج أبو الشيخ عن أبي العالية في قوله :﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ قال : ذاك محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج أبو الشيخ عن إبراهيم نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ عن محمد بن علي بن أبي طالب قال : قلت لأبي : إن الناس يزعمون في قول الله سبحانه :﴿ ويتلوه شاهد منه ﴾ أنك أنت التالي قال : وددت أني أنا هو ولكنه لسان محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة عن ابن عباس أن الشاهد جبريل ووافقه سعيد بن جبير وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : جبريل فهو شاهد من الله بالذي يتلوه من كتاب الله الذي أنزل على محمد ﴿ ومن قبله كتاب موسى ﴾ قال : ومن قبله التوراة على لسان موسى كما تلا القرآن على لسان محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن الحسن بن علي في قوله :﴿ ويتلوه شاهد منه ﴾ قال : محمد هو الشاهد من الله وأخرج أبو الشيخ عن إبراهيم ﴿ ومن قبله كتاب موسى ﴾ قال : ومن قبله جاء الكتاب إلى موسى وأخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ عن قتادة ﴿ ومن يكفر به من الأحزاب ﴾ قال : الكفار أحزاب كلهم على الكفر وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال :﴿ ومن يكفر به من الأحزاب ﴾ قال : من اليهود والنصارى