ثم هددهم بقوله : ٣٩ - ﴿ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ﴾ وهو عذاب الغرق في الدنيا ﴿ ويحل عليه عذاب مقيم ﴾ وهو عذاب النار الدائم ومعنى يحل : يجعل المؤجل حالا مأخوذ من حلول الدين المؤجل ومن موصولة في محل نصب ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع : أي أينا يأتيه عذاب يخزيه وقيل : في موضع رفع بالابتداء ويأتيه الخبر ويخزيه صفة لعذاب قال الكسائي : إن ناسا من أهل الحجاز يقولون سوف تعلمون قال : ومن قال ستعلمون أسقط الواو والفاء جميعا وجوز الكوفيون سوف تعلمون ومنعه البصريون والمراد بعذاب الخزي : العذاب الذي يخزي صاحبه ويحل عليه العار
قوله : ٤٠ - ﴿ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ﴾ حتى هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية وجعلت غاية لقوله : واصنع الفلك بأعيننا
والتنور اختلف في تفسيرها على أحوال : الأول : أنها وجه الأرض والعرب تسمي وجه الأرض تنورا روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة الثاني : أنه تنور الخبز الذي يخبزونه فيه وبه قال مجاهد وعطية والحسن وروي عن ابن عباس أيضا الثالث : أنه موضع اجتماع الماء في السفينة روي عن الحسن الرابع : أنه طلوع الفجر من قولهم تنور الفجر روي عن علي بن أبي طالب الخامس : أنه مسجد الكوفة روي عن علي أيضا ومجاهد قال مجاهد : كان ناحية التنور بالكوفة السادس : أنه أعالي الأرض والمواضع المرتفعة قاله قتادة السابع : أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة روي ذلك عن عكرمة الثامن : أنه موضع بالهند قال ابن عباس : كان تنور آدم بالهند قال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض قال :﴿ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا ﴾ فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة هكذا قال وفيه نظر فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء إلا إذا كان المراد مجرد العلامة كما ذكره آخرا وقد ذكر أهل اللغة أن الفور : الغليان والتنور : اسم عجمي عربته العرب وقيل : معنى فار التنور : التمثيل بحضور العذاب كقولهم : حمي الوطيس : إذا اشتد الحرب ومنه قول الشاعر :

( تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور )
يريد الحرب
قوله :﴿ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ﴾ أي قلنا : يا نوح احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكرا وأنثى وقرأ حفص ﴿ من كل ﴾ بتنوين كل : أي من كل شيء زوجين والزوجان للاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ويطلق على كل واحد منهما زوج كما يقال للرجل زوج وللمرأة زوج ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلا للفرد ويطلق الزوج على الضرب والصنف ومثله قوله تعالى :﴿ وأنبتت من كل زوج بهيج ﴾ ومثله قول الأعشى :
( وكل ضرب من الديباج يلبسه أبو حذافة مخبو بذاك معا )
أراد كل صنف من الديباج ﴿ وأهلك ﴾ عطف على زوجين أو على اثنين على قراءة حفص وعلى محل كل زوجين فإنه في محل نصب باحمل أو على اثنين على قراءة الجمهور والمراد : امرأته وبنوه ونساؤهم ﴿ إلا من سبق عليه القول ﴾ أي من تقدم الحكم عليه بأنه من المغرقين في قوله :﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ﴾ على الاختلاف السابق فيهم فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة ﴿ احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ﴾ ومن قال : المراد بهم ولده كنعان وامرأته واعلة أم كنعان جعل الاستثناء من أهلك ويكون متصلا إن أريد بالأهل ما هو أعم من المسلم والكافر منهم ومنقطعا إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط قوله :﴿ ومن آمن ﴾ معطوف على أهلك : أي واحمل في السفينة من آمن من قومك وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم أو للاستثناء منهم على القول الآخر ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به فقال :﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾ قيل : هم ثمانون إنسانا : منهم ثلاثة من بنيه وهو سام وحام ويافث وزوجاتهم ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين وهي موجودة بناحية الموصل وقيل كانوا عشرة وقيل سبعة وقيل كانوا اثنين وسبعين وقيل غير ذلك


الصفحة التالية
Icon