و ١٧ - ﴿ يتجرعه ﴾ في محل جر على أنه صفة لماء أو في محل نصب على أنه حال وقيل هو استئناف مبني على سؤال والتجرع التحسي : أي يتحساه مرة بعد مرة لا مرة واحدة لمرارته وحرارته ﴿ ولا يكاد يسيغه ﴾ أي يبتلعه يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا : إذا كان سهلا والمعنى : ولا يقارب إساغته فكيف تكون الإساغة ؟ بل يغص به فيطول عذابه بالعطش تارة ويشربه على هذه الحال أخرى وقيل إنه يسيغه بعد شدة وإبطاء كقوله :﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ أي يفعلون بعد إبطاء كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى ﴿ يصهر به ما في بطونهم ﴾ ﴿ ويأتيه الموت من كل مكان ﴾ أي تأتيه أسباب الموت من كل جهة من الجهات أو من كل موضع من مواضع بدنه وقال الأخفش : المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا لشدتها ﴿ وما هو بميت ﴾ أي والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح وقيل تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا ومثله قوله تعالى :﴿ لا يموت فيها ولا يحيا ﴾ وقيل معنى وما هو بميت : لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه :﴿ لا يموت فيها ولا يحيا ﴾ وقوله :﴿ لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ﴾ ﴿ ومن ورائه عذاب غليظ ﴾ أي من أمامه أو من بعده عذاب شديد وقيل هو الخلود وقيل حبس النفس
١٨ - ﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد ﴾ قال سيبويه : مثل مرتفع على الابتداء والخبر مقدر : أي فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا وبه قال الزجاج وقال الفراء : التقدير مثل أعمال الذين كفروا فحذف المضاف وروي عنه أنه قال بإلغاء مثل والتقدير الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد وقيل هو : أعني مثل مبتدأ وخبره أعمالهم كرماد على أن معناه الصفة فكأنه قال صفتهم العجيبة أعمالهم كرماد والمعنى : أن أعمالهم باطلة غير مقبولة والرماد ما يبقى بعد احتراق الشيء ضرب الله سبحانه هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف ومعنى اشتدت به الريح : حملته بشدة وسرعة والعصف شدة الريح وصف به زمانها مبالغة كما يقال : يوم حار ويوم بارد والبرد والحر فيهما لا منهما ﴿ لا يقدرون مما كسبوا على شيء ﴾ أي لا يقدر الكفار مما كسبوا من تلك الأعمال الباطلة على شيء منها ولا يرون له أثرا في الآخرة يجازون به ويثابون عليه بل جميع ما عملوه في الدنيا باطل ذاهب كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها والإشارة بقوله :﴿ ذلك ﴾ إلى ما دل عليه التمثيل : أي هذا البطلان لأعمالهم وذهاب أثرها ﴿ هو الضلال البعيد ﴾ عن طريق الحق المخالف لمنهج الصواب لما كان هذا خسرانا لا يمكن تداركه سماه بعيدا
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ لنخرجنكم من أرضنا ﴾ الآية قال كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويكذبونهم ويدعونهم إلى أن يعودوا في ملتهم فأبى الله لرسوله والمؤمنين أن يعودوا في ملة الكفر وأمرهم أن يتوكلوا على الله وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم فأنجز لهم ما وعدهم واستفتحوا كما أمرهم الله أن يستفتحوا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة فبين الله من يسكنها من عباده فقال ﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ وإن لله مقاما هو قائمه وإن أهل الإيمان خافوا ذلك المقام فنصبوا ودأبوا الليل والنهار وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ واستفتحوا ﴾ قال : للرسل كلها يقول استنصروا وفي قوله :﴿ وخاب كل جبار عنيد ﴾ قال : معاند للحق مجانب له وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : استنصرت الرسل على قومها ﴿ وخاب كل جبار عنيد ﴾ يقول : عنيد عن الحق معرض عنه أبى أن يقول لا إله إلا الله وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال : العنيد الناكب عن الحق وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله :﴿ ويسقى من ماء صديد * يتجرعه ﴾ قال : يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله تعالى :﴿ وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾ وقال :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ﴾ وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس في قوله :﴿ من ماء صديد ﴾ قال : يسيل من جلد الكافر ولحمه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال :﴿ من ماء صديد ﴾ هو القيح والدم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ ويأتيه الموت من كل مكان ﴾ قال : أنواع العذاب وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت ولكنه لا يموت لأن الله يقول :﴿ لا يقضى عليهم فيموتوا ﴾ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران ﴿ ويأتيه الموت من كل مكان ﴾ قال : من كل عظم وعرق وعصب وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي قال : من موضع كل شعرة في جسده ﴿ ومن ورائه عذاب غليظ ﴾ قال : الخلود وأخرج ابن المنذر عن الفضيل بن عياض ﴿ ومن ورائه عذاب غليظ ﴾ قال : حبس الأنفاس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مثل الذين كفروا بربهم ﴾ الآية قال : مثل الذين عبدوا غيره فأعمالهم يوم القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل في يوم عاصف