٢٢ - ﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر ﴾ أي قال للفريقين هذه المقالة ومعنى لما قضي الأمر : لما دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار على ما يأتي بيانه في سورة مريم ﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ﴾ وهو وعده سبحانه بالبعث والحساب ومجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ﴿ ووعدتكم فأخلفتكم ﴾ أي وعدتكم وعدا باطلا بأنه لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار فأخلفتكم ما وعدتكم به من ذلك قال الفراء : وعد الحق هو من إضافة الشيء إلى نفسه كقولهم : مسجد الجامع وقال البصريون : وعدكم وعد اليوم الحق ﴿ وما كان لي عليكم من سلطان ﴾ أي تسلط عليكم بإظهار حجة على ما وعدتكم به وزينته لكم ﴿ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ أي إلا مجرد دعائي لكم إلى الغواية والضلال بلا حجة ولا برهان ودعوته إياهم ليست من جنس السلطان حتى تستثني منه بل الاستثناء منقطع : أي لكن دعوتكم فاستجبتم لي : أي فسارعتم إلى إجابتي وقيل المراد بالسلطان هنا القهر : أي ما كان لي عليكم من قهر يضطركم إلى إجابتي وقيل هذا الاستثناء هو من باب :
( تحية بينهم ضرب وجيع )
مبالغة في نفيه للسطان عن نفسه كأنه قال : إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرد الدعاء من السلطان وليس منه قطعا ﴿ فلا تلوموني ﴾ بما وقعتم فيه بسبب وعدي لكم بالباطل وإخلافي لهذا الموعد ﴿ ولوموا أنفسكم ﴾ باستجابتكم لي بمجرد الدعوة التي لا سلطان عليها ولا حجة فإن من قبل المواعيد الباطلة والدعاوى الزائغة عن طريق الحق فعلى نفسه جنى ولمارنه قطع ولا سيما ودعوتي هذه الباطلة وموعدي الفاسد وقعا معارضين لوعد الله لكم وعد الحق ودعوته لكم إلى الدار السلام مع قيام الحجة التي لا تخفى على عاقل ولا تلتبس إلا على مخذول وقريب من هذا من يقتدي بآراء الرجال المخالفة لما في كتاب الله سبحانه ولما في سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ويؤثرها على ما فيهما فإنه قد استجاب للباطل الذي لم تقم عليه حجة ولا دل عليه برهان وترك الحجة والبرهان خلف ظهره كما يفعله كثير من المقتدين بالرجال المتنكبين طريق الحق بسوء اختيارهم اللهم غفرا ﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ﴾ يقال صرخ فلان إذا استغاث يصرخ صراخا وصرخا واستصرخ بمعنى صرخ والمصرخ المغيث والمستصرخ المستغيث يقال استصرخني فأصرخته والصريخ : صوت المستصرخ والصريخ أيضا : الصارخ وهو المغيث والمستغيث وهو من أسماء الأضداد كما في الصحاح قال ابن الأعرابي : الصارخ المستغيث والمصرخ : المغيث ومعنى الآية : ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه وفيه إرشاد لهم إلى أن الشيطان في تلك الحالة مبتلي بما ابتلوا به من العذاب محتاج إلى من يغيثه ويخلصه مما هو فيه فكيف يطمعون في إغاثة من هو محتاج إلى من يغيثه ؟ ومما ورد مورد هذه الأقوال من قول العرب قول أمية بن أبي الصلت :

( فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ وليس لكم عندي غناء ولا نفر )
و ﴿ مصرخي ﴾ بفتح الياء في قراءة الجمهور وقرأ الأعمش وحمزة بكسر الياء على أصل التقاء الساكنين قال الفراء : قراءة حمزة وهم منه وقل من سلم عن خطأ وقال الزجاج : هي قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف يعني ما ذكرناه من أنه كسرها على الأصل في التقاء الساكنين وقال قطرب : هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء وأنشد الفراء فيما ورد على هذه القراءة قول الشاعر :
( قلت لها يا تاء هل لك في قالت له ما أنت بالمرضي )
﴿ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ﴾ لما كشف لهم القناع بأنه لا يغني عنهم من عذاب الله شيئا ولا ينصرهم بنوع من أنواع النصر صرح لهم بأنه كافر بإشراكهم له مع الله في الربوبية من قبل هذا الوقت الذي قال لهم الشيطان فيه هذه المقالة وهو ما كان منهم في الدنيا من جعله شريكا ولقد قام لهم الشيطان في هذا اليوم مقاما يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم فأوضح لهم أولا أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله سبحانه وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشيء منها ثم أوضح لهم ثانيا بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول ولا ينفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بد للعاقل منها في قبول قول غيره ثم أوضح ثالثا بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء ثم نعى عليهم رابعا ما وقعوا فيه ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل ثم أوضح لهم خامسا بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة ولا يستطيع لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة ثم صرح لهم سادسا بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب وإذا كان جملة ﴿ إن الظالمين لهم عذاب أليم ﴾ من تتمة كلامه كما ذهب إليه البعض فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به فأثبت لهم الظلم ثم ذكر ما هو جزاؤهم عليه من العذاب الأليم لا على قول من قال : إنه ابتداء كلام من جهة الله سبحانه وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن ما مصدرية في ﴿ ما أشركتمون ﴾ وقيل يجوز أن تكون موصولة على معنى إني كفرت بالذي أشركتمونيه وهو الله عز و جل ويكون هذا حكاية لكفره بالله عند أن أمره بالسجود لآدم


الصفحة التالية
Icon