٤٥ - ﴿ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ﴾ أي استقررتم يقال سكن الدار وسكن فيها وهي بلاد ثمود ونحوهم من الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالله والعصيان له ﴿ وتبين لكم كيف فعلنا بهم ﴾ قرأ عبد الرحمن السلمي نبين بالنون والفعل المضارع وقرأ من عداه بالتاء الفوقية والفعل الماضي : أي تبين لكم بمشاهدة الآثار كيف فعلنا بهم من العقوبة والعذاب الشديد بما فعلوه من الذنوب وفاعل تبين ما دلت عليه الجملة المذكورة بعده : أي تبين لكم فعلنا العجيب بهم ﴿ وضربنا لكم الأمثال ﴾ في كتب الله وعلى ألسن رسله إيضاحا لكم وتقريرا وتكميلا للحجة عليكم
٤٦ - ﴿ وقد مكروا مكرهم ﴾ الجملة في محل نصب على الحال : أي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا في رد الحق وإثبات الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه وسعهم ﴿ وعند الله مكرهم ﴾ أي وعند الله جزاء مكرهم أو وعند الله مكتوب مكرهم فهو مجازيهم أو عند الله مكرهم الذي يمكرهم به على أن يكون المكر مضافا إلى المفعول قيل والمراد بهم بهم قوم محمد صلى الله عليه و سلم مكروا بالنبي صلى الله عليه و سلم حين هموا بقتله أو نفيه وقيل المراد ما وقع من النمروذ حيث حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتا وربط قوائمه بأربعة نسور ﴿ وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ﴾ قرأ عمر وعلي وابن مسعود وأبي وإن كاد مكرهم بالدال المهملة مكان النون وقرأ غيرهم من القراء ﴿ وإن كان ﴾ بالنون وقرأ ابن محيصن وابن جريج والكسائي ﴿ لتزول ﴾ بفتح اللام على أنها لام الابتداء وقرأ الجمهور بكسرها على أنها لام الجحود قال ابن جرير : الاختيار هذه القراءة يعني قراءة الجمهور لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة فعلى قراءة الكسائي ومن معه تكون إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدته : أي وإن الشأن كان مكرهم معدا لذلك قال الزجاج : وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال فإن الله ينصر دينه وعلى قراءة الجمهور يحتمل وجهين : أحدهما أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة والمعنى كما مر والثاني أن تكون نافية واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله :﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها مدى الدهر فالجملة على هذا حال من الضمير في مكروا لا من قوله :﴿ وعند الله مكرهم ﴾ أي والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي في مساوي الأخلاق عن ميمون بن مهران في قوله :﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ﴾ قال : هي تعزية للمظلوم ووعيد للظالم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ ليوم تشخص فيه الأبصار ﴾ قال : شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مهطعين ﴾ قال : يعني بالإهطاع النظر من غير أن يطرف ﴿ مقنعي رؤوسهم ﴾ قال : الإقناع رفع رؤوسهم ﴿ لا يرتد إليهم طرفهم ﴾ قال : شاخصة أبصارهم ﴿ وأفئدتهم هواء ﴾ ليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد مهطعين قال : مديمي النظر وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة مهطعين قال : مسرعين وأخرج هؤلاء عن قتادة في قوله :﴿ وأفئدتهم هواء ﴾ قال : ليس فيها شيء خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مرة وأفئدتهم هواء قال : منخرقة لا تعي شيئا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ﴾ يقول : أنذرهم في الدنيا من قبل أن يأتيهم العذاب وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال :﴿ يوم يأتيهم العذاب ﴾ هو يوم القيامة وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ﴿ ما لكم من زوال ﴾ قال : عما أنتم فيه إلى ما تقولون وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله ﴿ ما لكم من زوال ﴾ قال : بعث بعد الموت وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله :﴿ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ﴾ قال : عملتم بمثل أعمالهم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ وإن كان مكرهم ﴾ يقول : ما كان مكرهم ﴿ لتزول منه الجبال ﴾ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ وإن كان مكرهم ﴾ يقول شركهم كقوله :﴿ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ﴾ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية ﴿ وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ﴾ ثم فسرها فقال : إن جبارا من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أنظر إلى ما في السماء فأمر بفراخ النسور تعلف اللحم حتى شبت وغلظت وأمر بتابوت فنجر يسع رجلين ثم جعل في وسطه خشبة ثم ربط أرجلهن بأوتاد ثم جوعهن ثم جعل على رأس الخشبة لحما ثم دخل هو وصاحبه في التابوت ثم ربطهن إلى قوائم التابوت ثم خلى عنهن يردن اللحم فذهبن به ما شاء الله ثم قال لصاحبه افتح فانظر ماذا ترى ففتح فقال : انظر إلى الجبال كأنها الذباب قال أغلق فأغلق فطرن به ما شاء الله ثم قال افتح ففتح فقال انظر ماذا ترى فقال : ما أرى إلا السماء وما أراها تزداد إلا بعدا قال صوت الخشبة فصوبها فانقضت تريد اللحم فسمع الجبال هدتها فكادت تزول عن مراتبها وقد روي نحوه هذه القصة لبختنصر وللنمروذ من طرق ذكرها في الدر المنثور


الصفحة التالية
Icon