ثم امتن سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال : ٥٣ - ﴿ وما بكم من نعمة ﴾ أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله : أي فهي منه فتكون ما شرطية ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط و ﴿ بكم ﴾ صلتها و ﴿ من نعمة ﴾ حال من الضمير في الجار والمجرور أو بيان لما وقوله :﴿ فمن الله ﴾ الخبر وعلى كون ما شرطية يكون فعل الشرط محذوفا أي ما يكن والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به وإما دنيوية نفسانية أو بدنية أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها والكل من الله سبحانه فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال :﴿ ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ﴾ أي إذا مسكم الضر أي مس فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرعون في كشفه فلا كاشف له إلا هو يقال جأر يجأر جؤورا : إذا رفع صوته في تضرع قال الأعشى يصف بقرة :

( فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تطيف وتجأرا )
والضر : المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان
٥٤ - ﴿ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ﴾ أي إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضر إذا فريق أي جماعة منكم بربهم الذين رفع الضر عنهم يشركون فيجعلون معه إلها آخر من صنم أو نحوه والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له وهذا المعنى قد تقدم في الأنعام ويونس ويأتي في سبحان قال الزجاج : هذا خاص بمكر وفكر وقابل كشف الضر عنه بالجحود والكفر وعلى هذا فتكون من في ﴿ منكم ﴾ للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعا والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجها إلى الكفار فمن للبيان
واللام في ٥٥ - ﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ لام كي : أي لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها غاية وقيل اللام للعاقبة : يعني ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا هذا الكفر ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب ﴿ فتمتعوا ﴾ بما أنتم فيه من ذلك ﴿ فسوف تعلمون ﴾ عاقبة أمركم وما يحل بكم في هذه الدار وما تصيرون إليه في الدار الآخرة
ثم حكى سبحانه نوعا آخر من قبائح أعمالهم فقال : ٥٦ - ﴿ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم ﴾ أي يقع منه هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيبا مما رزقناهم من أموالهم يتقربون به إليه وقيل المعنى : أنهم أي الكفار يجعلون للأصنام وهم لا يعلمون شيئا لكونهم جمادات ففاعل يعلمون على هذا هي الأصنام وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون جريا على اعتقاد الكفرفيها وحاصل المعنى : ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعقل شيئا نصيبا من أموالهم التي رزقهم الله إياها ﴿ تالله لتسألن عما كنتم تفترون ﴾ هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ ﴿ عما كنتم تفترون ﴾ تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا


الصفحة التالية
Icon