بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم فقال مسليا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ٦٣ - ﴿ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ﴾ أي رسلا ﴿ فزين لهم الشيطان أعمالهم ﴾ الخبيثة ﴿ فهو وليهم اليوم ﴾ يحتمل أن يكون اليوم عبارة عن زمان الدنيا فيكون المعنى : فهو قرينهم في الدنيا ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده فيكون للحال الآتية ويكون الولي بمعنى الناصر والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلا في الدار الآخرة وإذا كان الناصر منحصرا فيه لزم أن لا نصرة من غيره ويحتمل أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا وهو على وجهين : الأول أن يراد البعض الذي قد مضى وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية الثاني أن يراد البعض الحاضر وهو وقت نزول الآية والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش فيكون الضمير في ﴿ وليهم ﴾ لكفار قريش : أي فهو ولي هؤلاء اليوم أو على حذف مضاف : أي فهو ولي أمثال أولئك الأمم اليوم ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي في الآخرة وهو عذاب النار
ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم فقال : ٦٤ - ﴿ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ﴾ وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم والمراد بالكتاب القرآن والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال : أي ما أنزلناه عليك لحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا لعلة التبيين لهم : أي للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد وأحوال البعث وسائر الأحكام الشرعية ﴿ و ﴾ انتصاب ﴿ هدى ورحمة ﴾ على أنهما مفعول لهما معطوفان على محل لتبين ولا حاجة إلى اللام لأنهما فعلا فاعل الفعل المعلل بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ بالله سبحانه ويصدقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب
ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرده بالإلهية بذكر آياته العظام فقال : ٦٥ - ﴿ والله أنزل من السماء ماء ﴾ أي من السحاب أي من جهة العلو كما مر : أي نوعا من أنواع الماء ﴿ فأحيا به الأرض بعد موتها ﴾ أي أحياها بالنبات بعد أن كانت يابسة لا حياة بها ﴿ إن في ذلك ﴾ الإنزال والإحياء ﴿ لآية ﴾ أي علامة دالة على وحدانيته وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم ﴿ لقوم يسمعون ﴾ كلام الله ويفهمون ما يتضمنه من العبر ويتفكرون في خلق السموات والأرض
٦٦ - ﴿ وإن لكم في الأنعام لعبرة ﴾ الأنعام هي الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة ومنه ﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم والظاهر أن العبرة هي قوله :﴿ نسقيكم مما في بطونه ﴾ فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة قرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ﴿ نسقيكم ﴾ بفتح النون من سقى يسقي وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي قيل هما لغتان قال لبيد :

( سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال )
وقرئ بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الأنعام وقرئ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه وهما ضعيفتان وجميع القراء على القراءتين الأوليين والفتح لغة قريش والضم لغة حمير وقيل إن بين سقى وأسقى فرقا فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقي فيقال سقيته وإن كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له قيل أسقاه والضمير في قوله ﴿ مما في بطونه ﴾ راجع إلى الأنعام قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد وقال الزجاج لماكان لفظ الجمع يذكر ويؤنث فيقال هو الأنعام وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير وقال الكسائي معناه مما في بطون ما ذكرنا فهو على هذا عائد إلى المذكور قال الفراء : وهو صواب وقال المبرد : هذا فاش في القرآن كثير مثل قوله للشمس ﴿ هذا ربي ﴾ يعني هذا الشيء الطالع وكذلك ﴿ وإني مرسلة إليهم بهدية ﴾ ثم قال :﴿ فلما جاء سليمان ﴾ ولم يقل جاءت لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا انتهى ومن ذلك قوله :﴿ إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ ومثله قول الشاعر :
( مثل الفراخ نيفت حواصله )
ولم يقل حواصلها وقول الآخر :
( وطاب إلقاح اللبان وبرد )
ولم يقل وبردت وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث لأن الذكور لا ألبان لها وبه قال أبو عبيدة وحكي عن الفراء أنه قال : النعم والأنعام واحد يذكر ويؤنث ولهذا تقول العرب : هذه نعم وارد فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام وهو كقول الزجاج ورجحه ابن العربي فقال : إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع والتأنيث إلى معنى الجماعة فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة ﴿ من بين فرث ودم ﴾ الفرث : الزبل الذي ينزل إلى الكرش فإذا خرج منه لم يسم فرثا : يقال أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها والمعنى : أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش وهو الفرث ويكون منه الدم فيكون أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه ﴿ لبنا ﴾ فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث كما هو ﴿ خالصا ﴾ يعني من حمرة الدم وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد ﴿ سائغا للشاربين ﴾ أي لذيذا هنيئا لا يغص به من شربه : يقال ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق


الصفحة التالية
Icon