ولهذا قال : ١٩ - ﴿ ومن أراد الآخرة ﴾ أي أراد بأعماله الدار الآخرة ﴿ وسعى لها سعيها ﴾ أي السعي الحقيقي بها اللائق بطالبها وهو الإتيان بما أمر به وترك ما نهي عنه خالصا لله غير مشوب وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى ﴿ وهو مؤمن ﴾ بالله إيمانا صحيحا لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلا إذا كان من المؤمنين ﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ والجملة في محل نصب على الحال والإشارة بقوله :﴿ فأولئك ﴾ إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره ﴿ كان سعيهم مشكورا ﴾ عند الله : أي مقبولا غير مردود وقيل مضافا إلى أضعاف كثيرة فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكورا أمورا ثلاثة : الأول إرادة الآخرة الثاني أن يسعى لها السعي الذي يحق لها والثالث أن يكون مؤمنا
ثم بين سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال : ٢٠ - ﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ﴾ التنوين في كلا عوض عن المضاف إليه والتقدير كل واحد من الفريقين نمد : أي نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع نرزق المؤمنين والكفار وأهل الطاعة وأهل المعصية لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة وفي قوله :﴿ من عطاء ربك ﴾ إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل وهو متعلق بنمد ﴿ وما كان عطاء ربك محظورا ﴾ أي ممنوعا يقال حظره يحظره حظرا : منعه وكل ما حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك ومن هؤلاء بدل من كلا وهؤلاء معطوف على البدل قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن يعطي المسلم و الكافر وأنه يرزقهما جميعا الفريقين فقال :﴿ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ﴾
٢١ - ﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ﴾ الخطاب لمحمد صلى الله عليه و سلم ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار وهذه الجملة مقررة لما مر من الإمداد وموضحة له والمعنى : انظر كيف فضلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض فمن غني وفقير وقوي وضعيف وصحيح ومريض وعاقل وأحمق وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها ﴿ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا وقيل المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرون يدخلون النار فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما