ومن ناحيتها ١٢ - ﴿ يا موسى * إني أنا ربك ﴾ أي نودي فقيل يا موسى وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي ﴿ أني ﴾ بفتح الهمزة وقرأ الباقون بكسرها : أي بأني ﴿ فاخلع نعليك ﴾ أمره الله سبحانه بخلع نعليه لأن ذلك أبلغ في التواضع وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب وقيل إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ وقيل معنى الخلع للنعلين : تفريغ القلب من الأهل والمال وهو من بدع التفاسير ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال :﴿ إنك بالواد المقدس طوى ﴾ المقدس المطهر والقدس الطهارة والأرض المقدسة المطهرة سميت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين وطوى اسم للوادي قال الجوهري : وطوى اسم موضع بالشام بكسر طاؤه ويضم ويصرف ولا يصرف فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة وقرأ عكرمة طوى بكسر الطاء وقرأ الباقون بضمها وقيل إن طوى كثنى من الطي مصدر لنودي أو للمقدس : أي نودي نداءين أو قدس مرة بعد أخرى
١٣ - ﴿ وأنا اخترتك ﴾ قرأ أهل المدينة وأهل مكة وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي ﴿ وأنا اخترتك ﴾ بالإفراد وقرأ حمزة ﴿ وأنا اخترتك ﴾ بالجمع قال النحاس : والقراءة الأولى أولى من جهتين : إحداهما أنها أشبه بالخط والثانية أنها أولى بنسق الكلام لقوله :﴿ يا موسى * إني أنا ربك ﴾ ومعنى اخترتك اصطفيتك للنبوة والرسالة والفاء في قوله :﴿ فاستمع لما يوحى ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها وما موصولة أو مصدرية أي فاستمع للذي يوحى إليك أو للوحي
وجملة ١٤ - ﴿ إنني أنا الله ﴾ بدل من ما في لما يوحى ثم أمره سبحانه بالعبادة فقال :﴿ فاعبدني ﴾ والفاء هنا كالفاء التي قبلها لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة ﴿ وأقم الصلاة لذكري ﴾ خص الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله ﴿ لذكري ﴾ : أي لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة أو المعنى لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار أو المعنى : أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة وقيل المعنى : لأذكرك بالمدح في عليين فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول
وجملة ١٥ - ﴿ إن الساعة آتية ﴾ تعليل لما قبلها من الأمر : أي إن الساعة التي هي وقت الحساب والعقاب آتية فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة
ومعنى ﴿ أكاد أخفيها ﴾ مختلف فيه قال الواحدي : قال أكثر المفسرين : أخفيها من نفسي وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وقال المبرد وقطرب : هذا على عادة مخاطبة العرب يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي : أي لم أطلع عليه أحدا ومعنى الآية أن الله بالغ في إخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب وقد روي سعيد بن جبير أنه قرأ أخفيها بفتح الهمزة ومعناه أظهرها وكذا روى أبو عبيدة عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وفاء بن إياس عن سعيد بن جبير قال النحاس : وليس لهذه الرواية طريق غير هذا قال القرطبي : وكذا رواه ابن الأنباري في كتاب الرد قال : حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي فذكره قال النحاس : وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ أخفيها بضم الهمزة قال ابن الأنباري : قال الفراء : ومعنى قراءة الفتح أكاد أظهرها من خفيت الشيء إذا أظهرته أخفيه قال القرطبي : وقد قال بعض اللغويين : يجوز أن يكون أخفيها بضم الألف معناه أظهرها لأنه يقال خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقل على الستر والإظهار قال أبو عبيدة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد قال النحاس : وهذا حسن وقد أنشد الفراء وسيبويه ما يدل على أن معنى أخفاه أظهر وذلك قول امريء القيس :

( فإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد )
أي : وإن تكتموا الداء لا نظهره وقد حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنه بضم النون من نخفه وقال : امرؤ القيس :
( خفاهن من أنفاقهن كأنما خطاهن ودق من غشي مخلب )
أي : أظهرهن وقد زيف النحاس هذا القول وقال : ليس المعنى على أظهرها ولا سيما وأخفيها قراءة شاذة فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة وقال ابن الأنباري : في الآية تفسير آخر وهو أن الكلام ينقطع على أكاد ويعده مضمر : أي أكاد آتي بها ووقع الابتداء بأخفيها ﴿ لتجزى كل نفس بما تسعى ﴾ ومثله قول عمير ابن ضابيء البرجمي :
( هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله )
أي وكدت أفعل واختار هذا النحاس وقال أبو علي الفارسي : هو من باب السلب وليس الأضداد ومعنى أخفيها : أزيل عنها خفاءها وهو سترها ومن هذا قولهم أشكيته : أي أزلت شكواه وحكى أبو حاتم عن الأخفش أن أكاد زائدة للتأكيد قال : ومثله - إذا أخرج يده لم يكد يراها - ومثله قول الشاعر :
( سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس )
قال : والمعنى أكاد أخفيها : أي أقارب ذلك لأنك إذا قلت : كاد زيد يقوم جاز أن يكون قام وأن يكون لم يقم ودل على أنه أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا وقوله :﴿ لتجزى كل نفس بما تسعى ﴾ متعلق بآتية أو بأخفيها وما مصدرية : أي لتجزئ كل نفس بسعيها والسعي وإن كان ظاهرا في الأفعال فهو هنا يعم الأفعال والتروك للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به


الصفحة التالية
Icon