وجملة ٥٤ - ﴿ كلوا وارعوا ﴾ في محل نصب على الحال بتقدير القول : أي قائلين لهم ذلك والأمر للإباحة : يقال رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية : أي أسامها وسرحها يجيء لازما ومتعديا والإشارة بقوله :﴿ إن في ذلك لآيات لأولي النهى ﴾ إلى ما تقدم ذكره في هذه الآيات والنهي العقول جمع نهية وخص ذوي النهي لأنهم الذين ينتهون إلى رأيهم وقيل لأنهم ينهون النفس عن القبائح وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله :﴿ فمن ربكما يا موسى ﴾
والضمير في ٥٥ - ﴿ منها خلقناكم ﴾ وما بعده راجع إلى الأرض المذكورة سابقا قال الزجاج وغيره : يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه وقيل المعنى : أن كل نطفة مخلوقة من التراب في ضمن خلق آدم لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه ﴿ وفيها ﴾ أي في الأرض ﴿ نعيدكم ﴾ بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرق أجزاؤكم حتى تصبر من جنس الأرض وجاء بفي دون إلى للدلالة على الاستقرار ﴿ ومنها ﴾ أي من الأرض ﴿ نخرجكم تارة أخرى ﴾ أي بالبعث والنشور وتأليف الأجسام ورد الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت والتارة كالمرة
٥٦ - ﴿ ولقد أريناه آياتنا كلها ﴾ أي أرينا فرعون وعرفناه آياتنا كلها والمراد بالآيات هي الآيات التسع المذكورة في قوله :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات ﴾ على أن الإضافة للعهد وقيل المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى والتي جاء بها غيره من الأنبياء وأن موسى قد كان عرفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء والأول أولى وقيل المراد بالآيات حجج الله سبحانه الدالة على توحيده ﴿ فكذب وأبى ﴾ أي كذب فرعون موسى وأبى عليه أن يجيبه إلى الإيمان وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾
وجملة ٥٧ - ﴿ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ﴾ مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قال فرعون بعد هذا ؟ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات : أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك والإيمان بما جئت به حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى فإنه إذا وقع في أذهانهم وتقرر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير
٥٨ - ﴿ فلنأتينك بسحر مثله ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام هي الموطئة للقسم : أي والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله الساحر ﴿ فاجعل بيننا وبينك موعدا ﴾ هو مصدر : أي وعدا وقيل اسم مكان : أي اجعل لنا يوما معلوما أو مكانا معلوما لا نخلفه قال القشيري : والأظهر أنه مصدر ولهذا قال :﴿ لا نخلفه ﴾ أي لا نخلف ذلك الوعد والإخلاف أن تعد شيئا ولا تنجزه قال الجوهري : الميعاد المواعدة والوقت الموضع وكذلك الموعد وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج ﴿ لا نخلفه ﴾ بالجزم على أنه جواب لقوله اجعل وقرأ الباقون بالرفع على أنه صفة لموعدا : أي لا نخلف ذلك الوعد ﴿ نحن ولا أنت ﴾ وفوض تعيين الموعد إلى موسى إظهارا لكمال اقتداره على الإتيان بمثل ما أتى به موسى وانتصاب ﴿ مكانا سوى ﴾ بفعل مقدر يدل عليه المصدر أو على أنه بدل من موعد قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ﴿ سوى ﴾ بضم السين وقرأ الباقون بكسرها وهما لغتان واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السير لأنها اللغة العالية الفصيحة والمراد مكانا مستويا وقيل مكانا منصفا عدلا بيننا وبينك قال سيبويه : يقال سوى وسوى : أي عدل يعني عدلا بين المكانين قال زهير :
( أرونا خطة لا ضيم فيها | يسوى بيننا فيها السواء ) |
قال أبو عبيدة والقتيبي : معناه مكانا وسطا بين الفريقين وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي :
( وإن أبانا كان حل ببلدة | سوى بين قيس قيس غيلان والفزر ) |
والفزر سعد بن زيد مناة