لما نفى سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلا وآجلا فوصفهم بصفات أربع : الأولى قوله : ٥٧ - ﴿ إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ﴾ الإشفاق : الخوف تقول أنا مشفق من هذا الأمر : أي خائف قيل الإشفاق هو الخشية فظاهر ما في الآية التكرار وأجيب بحمل الخشية على العذاب : أي من عذاب ربهم خائفون وبه قال الكلبي ومقاتل وأجيب أيضا بحمل الإشفاق على ما هو أثر له : وهو الدوام على الطاعة : أي الذين هم من خشية ربهم دائمون على طاعته وأجيب أيضا بأن الإشفاق كمال الخوف فلا تكرار وقيل هو تكرار للتأكيد
والصفة الثانية قوله : ٥٨ - ﴿ والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ﴾ قيل المراد بالآيات هي التنزيلية وقيل هي التكوينية وقيل مجموعهما قيل وليس المراد بالإيمان بها هو التصديق بكونها دلائل وأن مدلولها حق
والصفة الثالثة قوله : ٥٩ - ﴿ والذين هم بربهم لا يشركون ﴾ أي يتركون الشرك تركا كليا ظاهرا وباطنا
والصفة الرابعة قوله : ٦٠ - ﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ﴾ أي يعطون ما أعطوا وقلوبهم خائفة من أجل ذلك الإعطاء يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وجملة ﴿ وقلوبهم وجلة ﴾ في محل نصب على الحال : أي والحال أن قلوبهم خائفة أشد الخوف قال الزجاج : قلوبهم خائفة لأنهم إلى ربهم راجعون وسبب الوجل هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب لا مجرد رجوعهم إليه سبحانه وقيل المعنى : أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب وعلم أن المجازي والمحاسب هو الرب الذي لا تخفى عليه خافية لم يخل من وجل قرأت عائشة وابن عباس والنخعي يأتون ما أتوا مقصورا من الإتيان قال الفراء : ولو صحت هذه القراءة لم تخالف قراءة الجماعة لأن من العرب من يلزم في الهمز الألف في كل الحالات قال النحاس : ومعنى هذه القراءة يعملون ما عملوا
والإشارة بقوله : ٦١ - ﴿ أولئك ﴾ إلى المتصفين بهذه الصفات ومعنى ﴿ يسارعون في الخيرات ﴾ يبادرون بها قال الفراء والزجاج : ينافسون فيها وقيل يسابقون وقرئ يسرعون ﴿ وهم لها سابقون ﴾ اللام للتقوية والمعنى : هم سابقون إياها وقيل اللام إلى كما في قوله :﴿ بأن ربك أوحى لها ﴾ أي أوحى إليها وأنشد سيبويه قول الشاعر :

( تجانف عن أهل اليمامة يا فتى وما قصدت من أهلها لسوائكا )
أي إلى سوائكا وقيل المفعول محذوف والتقدير : وهم سابقون الناس لأجلها
ثم لما انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر لهما حكمين : الأول قوله : ٦٢ - ﴿ ولا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ الوسع هو الطاقة وقد تقدم بيان هذا في آخر سورة البقرة وفي تفسير الوسع قولان : الأول أنه الطاقة كما فسره بذلك أهل اللغة الثاني أنه دون الطاقة وبه قال مقاتل والضحاك والكلبي والمعتزلة قالوا : لأن الوسع إنما سمي لأنه يتسع على فاعله فعله ولا يضيق عليه فمن لم يستطع الجلوس فليوم إيماء ومن لم يستطع الصوم فليفطر وهذه الجملة مستأنفة للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الكرامات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده وجملة ﴿ ولدينا كتاب ينطق بالحق ﴾ من تمام ما قبلها من نفي التكليف بما فوق الوسع والمراد بالكتاب صحائف الأعمال : أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل واحد من المكلفين على ما هي عليه ومعنى ينطق بالحق يظهر به الحق المطابق للواقع من دون زيادة ولا نقص ومثله قوله سبحانه :﴿ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ﴾ وفي هذا تهديد للعصاة وتأنيس للمطيعين من الحيف والظلم وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ فإنه قد كتب فيه كل شيء وقيل المراد بالكتاب : القرآن والأول أولى وفي هذه الآية تشبيه للكتاب بمن يصدر عنه البيان بالنطق بلسانه فإن الكتاب يعرب عما فيه كما يعرب الناطق المحق وقوله :﴿ بالحق ﴾ يتعلق بينطق أو بمحذوف هو حال من فاعله : أي ينطق ملتبسا بالحق وجملة ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ مبينة لما قبلها من تفضله وعدله في جزاء عباده : لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب ومثله قوله سبحانه :﴿ ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ﴾


الصفحة التالية
Icon