ثم زيف ما عليه أهل الشرك توبيخا لهم وتقريعا فقال : ١١٧ - ﴿ ومن يدع مع الله إلها آخر ﴾ يعبده مع الله أو يعبده وحده وجملة ﴿ لا برهان له به ﴾ في محل نصب صفة لقوله إلها وهي صفة لازمة جيء بها للتأكيد كقوله ﴿ يطير بجناحيه ﴾ والبرهان : الحجة الواضحة والدليل الواضح وجواب الشرط قوله :﴿ فإنما حسابه عند ربه ﴾ وجملة لا برهان له به معترضة بين الشرط والجزاء كقولك : من أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فالله مثيبه وقيل إن جواب الشرط قوله :﴿ لا برهان له به ﴾ على حذف فاء الجزاء كقول الشاعر :
( من يفعل الحسنات الله يشكرها )
﴿ إنه لا يفلح الكافرون ﴾ قرأ الحسن وقتادة بفتح أن على التعليل وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف وقرأ الحسن لا يفلح بفتح الياء واللام مضارع فلح بمعنى أفلح
ثم ختم هذه السورة بتعليم رسوله صلى الله عليه و سلم أن يدعوه بالمغفرة والرحمة فقال : ١١٨ - ﴿ وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ﴾ أمره سبحانه بالاستغفار لتقتدي به أمته وقيل أمره بالاستغفار لأمته وقد تقدم بيان كونه أرحم الراحمين ووجه اتصال هذا بما قبله أنه سبحانه لما شرح أحوال الكفار أمر بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته
وقد أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : إذا أدخل الكافر في قبره فيرى مقعده من النار ﴿ قال رب ارجعون ﴾ أتوب أعمل صالحا فيقال له قد عمرت ما كنت معمرا فيضيق عليه قبره فهو كالمنهوش ينازع ويفزع تهوي إليه حيات الأرض وعقاربها وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : زعموا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة : إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا : نرجعك إلى الدنيا فيقول : إلى دار الهموم والأحزان بل قدما إلى الله وأما الكفار فيقولون له : نرجعك فيقول : رب ارجعون ﴿ لعلي أعمل صالحا فيما تركت ﴾ وهو مرسل وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه فعند ذلك يقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ] وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله :﴿ أعمل صالحا ﴾ قال : أقول لا إله إلا الله وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور يدخل عليهم في قبورهم حيات سود حية عند رأسه وحية عند رجليه يقرصانه حتى تلتقيا في وسطه فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله ﴿ ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ﴾ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ﴾ قال : حين نفخ في الصور فلا يبقى حي إلا الله وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه سئل عن قوله :﴿ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ﴾ وقوله :﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ فقال : إنها مواقف فأما الموقف الذي لا أنساب بينهم ولا يتساءلون عند الصعقة الأولى لا أنساب بينهم فيها إذا صعقوا فإذا كانت النفخة الآخرة فإذا هم قيام يتساءلون وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عنه أيضا أنه سئل عن الآيتين فقال : أما قوله :﴿ ولا يتساءلون ﴾ فهذا في النفخة الأولى حين لا يبقى على الأرض شيء وأما قوله :﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ فإنهم لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن مسعود قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين الآخرين وفي لفظ : يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد : ألا إن هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه وفي لفظ : من كان له مظلمة فليجيء فليأخذ حقه فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا ومصداق ذلك في كتاب الله ﴿ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ﴾ وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي في سننه عن المسور بن مخرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري ] وأخرج البزار والطبراني وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :[ كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ] وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري ] وأخرج أحمد عن أبي سعيد بن الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول على المنبر :[ ما بال رجال يقولون : إن رحم رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينفع قومه بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة وإني أيها الناس فرط لكم ] وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ﴿ تلفح وجوههم النار ﴾ قال : تنفخ وأخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله :[ ﴿ تلفح وجوههم النار ﴾ قال : تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم ] وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود في الآية قال : لفحتهم لفحة فما أبقت لحما على عظم إلا ألقته على أعقابهم وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه ابن أبي الدنيا في صفة النار وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه في قوله :﴿ وهم فيها كالحون ﴾ قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال : كلوح الرأس النضيج بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ كالحون ﴾ قال : عابسون وقد ورد في صفة أهل النار وما يقولونه وما يقال لهم أحاديث كثيرة معروفة وأخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل اليوم والليلة وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود [ أنه قرأ في أذن مصاب ﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ﴾ حتى ختم السورة فبرئ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بماذا قرأت في أذنه ؟ فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال ] وأخرج ابن السني وابن منده وأبو نعيم في المعرفة قال السيوطي بسند حسن من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا ﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ﴾ فقرأناها فغنمنا وسلمنا اهـ
بحمد الله تعالى تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله : تفسير سورة النور