قوله ١٠٩ - ﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ﴾ هذا رد على من قال ﴿ لولا أنزل عليه ملك ﴾ : أي لم نبعث من الأنبياء إلى من قبلك إلا رجالا لا ملائكة فكيف ينكرون إرسالنا إياك وتدل الآية على أن الله سبحانه لم يبعث نبيا من النساء ولا من الجن وهذا يرد على من قال : إن في النساء أربع نبيات : حواء وآسية وأم موسى ومريم وقد كان بعثة الأنبياء من الرجال دون النساء أمرا معروفا عند العرب حتى قال قيس بن عاصم في سجاح المتنبئة :

( أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الله ذكرانا )
( فلعنة الله والأقوام كلهم على سجاح ومن باللوم أغرانا )
﴿ نوحي إليهم ﴾ كما نوحي إليك ﴿ من أهل القرى ﴾ أي المدائن دون أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على البدو ولكون أهل الأمصار أتم عقلا وأكمل حلما وأجل فضلا ﴿ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ يعني المشركين المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه و سلم : أي أفلم يسر المشركون هؤلاء فينظروا إلى مصارع الأمم الماضية فيعتبروا بهم حتى ينزعوا عما هم فيه من التكذيب ﴿ ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ﴾ أي لدار الساعة الآخرة أو لحالة الآخرة على حذف الموصوف وقال الفراء : إن الدار هي الآخرة وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كيوم الجمعة وصلاة الأولى ومسجد الجامع والكلام في ذلك مبين في كتب الإعراب والمراد بهذه الدار : الجنة : أي هي خير للمتقين من دار الدنيا وقرىء وللدار الآخرة وقرأ نافع وعاصم ويعقوب ﴿ أفلا تعقلون ﴾ بالتاء الفوقية على الخطاب
وقرأ الباقون بالتحتية ١١٠ - ﴿ حتى إذا استيأس الرسل ﴾ هذه الغاية لمحذوف دل عليه الكلام وتقديره : وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا ولم نعاجل أممهم الذين لم يؤمنوا بما جاءوا به بالعقوبة ﴿ حتى إذا استيأس الرسل ﴾ من النصر بعقوبة قومهم أو حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر ﴿ وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾ قرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف كذبوا بالتخفيف : ظن القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا وقيل المعنى : ظن القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوا من نصرهم وقيل المعنى : وظن الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليهم أو كذبهم رجاؤهم للنصر وقرأ الباقون كذيوا بالتشديد والمعنى عليها واضح : أي ظن الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظن القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد وقرأ مجاهد وحميد قد كذبوا بفتح الكاف والذال مخففتين على معنى : وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا وقد قيل إن الظن في هذه الآية بمعنى اليقين لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم وليس ذلك مجرد ظن منهم والذي ينبغي أن يفسر الظن باليقين في مثل هذه الصورة ويفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظن فقط من الصور السابقة ﴿ جاءهم نصرنا ﴾ أي فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين ﴿ فنجي من نشاء ﴾ قرأ عاصم فنجي بنون واحدة وقرأ الباقون فننجي بنونين واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لأنها في مصحف عثمان كذلك وقرأ ابن محيصن فنجا على البناء للفاعل فتكون من على القراءة الأولى في محل رفع على أنها نائب الفاعل وتكون على القراءة الثانية في محل نصب على أنها مفعول وعلى القراءة الثالثة في محل رفع على أنها فاعل والذين نجام الله هم الرسل ومن آمن معهم وهلك المكذبون ﴿ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾ عند نزوله بهم وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين


الصفحة التالية
Icon