٤ - قوله :﴿ والذين يرمون ﴾ استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول كما قال النابغة :
( وجرح اللسان كجرح اليد )
وقال آخر :

( رماني بأمر كنت عنه ووالدي بريا ومن أجل الطوى رماني )
ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفا والمراد بالمحصنات النساء وخصهن بالذكر لأن قدفهن أشنع والعار فيهن أعظم ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة وقد جمعنا في ذلك رسالة رددنا بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك وقيل إن الآية تعم الرجال والنساء والتقدير : والأنفس المحصنات ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى :﴿ والمحصنات من النساء ﴾ فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى وقيل أراد بالمحصنات الفروج كما قال :﴿ والتي أحصنت فرجها ﴾ فتتناول الآية الرجال والنساء وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليبا وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب والمراد بالمحصنات هنا العفائف وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه منها ما هو مأخوذ من دليل ومنها ما هو مجرد رأي بحت قرأ الجمهور ﴿ والمحصنات ﴾ بفتح الصاد وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حد على من قذف كافرا أو كافرة وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى : إنه يجب عليه الحد وذهب الجمهور أيضا أن العبد يجلد أربعين جلدة وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة : يجلد ثمانين قال القرطبي : وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال ثم ذكر سبحانه شرطا لإقامة الحد على من قذف المحصنات فقال :﴿ ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ﴾ أي يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن ولفظ ثم يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف وبه قال الجمهور وخالف في ذلك مالك وظاهر الآية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين وخالف في ذلك الحسن ومالك وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون بحد القذف وقال الحسن والشعبي : إنه لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم قرأ الجمهور ﴿ بأربعة شهداء ﴾ بإضافة أربعة إلى شهداء وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بتنوين أربعة
وقد اختلف في إعراب شهداء على هذه القراءة فقيل هو تمييز ورد بأن المميز من ثلاثة إلى عشرة يضاف إليه العدد كما هو مقرر في علم النحو وقيل إنه في محل نصب على الحال ورد بأن الحال لا يجيء من النكرة التي لم تخصص وقيل إن شهداء في محل جر نعتا لأربعة ولما كان فيه ألف التأنيث لم ينصرف وقال النحاس : يجوز أن يكون شهداء في موضع نصب على المفعولية : أي ثم لم يحضروا أربعة شهداء وقد قوى ابن جني هذه القراءة ويدفع ذلك قوله سيبويه إن تنوين العدد وترك إضافة إنما يجوز في الشعر ثم بين سبحانه ما يجب على القاذف فقال :﴿ فاجلدوهم ثمانين جلدة ﴾ الجلد الضرب كما تقدم والمجادلة المضاربة في الجلود أو بالجلود ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما ومنه قول قيس بن الخطيم :
( أجالدهم يوم الحديقة حاسرا كأن يدي بالسيف مخراق لاعب )
وقد تقدم بيان الجلد قريبا وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر وجلدة منتصبة على التمييز وجملة ﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ﴾ معطوفة على اجلدوا : أي فاجمعوا لهم بين الأمرين : الجلد وترك قبول الشهادة لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به في آخر هذه الآية واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو حال من شهادة ولو تأخرت عليها لكانت صفة لها ومعنى ﴿ أبدا ﴾ : ما داموا في الحياة ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال :﴿ وأولئك هم الفاسقون ﴾ وهذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية وجوز أبو البقاء أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال ثم بين سبحانه أن هذا التأبيد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة


الصفحة التالية
Icon