وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه ٣١ - ﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ﴾ خص سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليبا كما في سائر الخطابات القرآنية وظهر التضعيف في يغضض ولم يظهر في يغضوا لأن لام الفعل من الأول متحركة ومن الثاني ساكنة وهما في موضع جزم جوابا للأمر وبدأ سبحانه بالغض في الموضعين قبل حفظ الفرج لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه ومعنى : يغضضن من أبصارهن كمعنى يغضوا من أبصارهم فيستدل به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم عليهن وكذلك يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم ﴿ ولا يبدين زينتهن ﴾ أي ما يتزين به من الحلية وغيرها وفي النهي عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالأولى ثم استثنى سبحانه من هذا النهي فقال :﴿ إلا ما ظهر منها ﴾
واختلف الناس في ظاهر الزينة وما هو ؟ فقال ابن مسعود وسعيد بن جبير : ظاهر الزينة هو الثياب وزاد سعيد بن جبير الوجه وقال عطاء والأوزاعي : الوجه والكفان وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الساق ونحو ذلك فإنه يجوز للمرأة أن تبديه وقال ابن عطية إن المرأة لا تبدي شيئا من الزينة وتخفي كل شيء من زينتها ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني النهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها كالجلباب والخمار ونحوهما مما على الكف والقدمين من الحلية ونحوها وإن كان المراد بالزينة مواضعها كان الاستثناء راجعا إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالأمر واضح والاستثناء يكون من الجميع قال القرطبي في تفسيره : الزينة على قسمين : خلقية ومكتسبة فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة والزينة المكتسبة ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب
والحلي والكحل والخضاب ومنه قوله تعالى ﴿ خذوا زينتكم ﴾ وقول الشاعر :
( يأخذن زينتهن أحسن ما ترى | وإذا عطلن فهن خير عواطل ) |
في الآية ذكر الرضاع وهو كالنسب وقال الشعبي وعكرمة : ليس العم والخال من المحارم ومعنى ﴿ أو نسائهن ﴾ هن المختصات بهن الملابسات لهن بالخدمة أو الصحبة ويدخل في ذلك الإماء ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة وغيرهم فلا يحل لهن أن يبدين زينتهنلهن لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات ﴿ أو ما ملكت أيمانهن ﴾ ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين أو كافرين وبه قال جماعة من أهل العلم وإليه ذهبت عائشة وأم سلمة وابن عباس ومالك وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم هذه الآية ﴿ أو ما ملكت أيمانهن ﴾ إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته وهو قول عطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين وروي عن ابن مسعود وبه قال أبو حنيفة وابن جريح ﴿ أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ﴾ قرأ الجمهور ﴿ غير ﴾ بالجر وقرأ أبو بكر وابن عامر بالنصب على الاستثناء وقيل على القطع والمراد بالتابعين هم الذين يتبعون القوم فيصيبون من طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء قاله مجاهد وعكرمة والشعبي ومن الرجال في محل نصب على الحال وأصل الإربة والأرب والمأربة الحاجة والجمع مآرب : أي حوائج ومنه قوله سبحانه :﴿ ولي فيها مآرب أخرى ﴾ ومنه قول طرفة :
( إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا | تقدم يوما ثم ضاعت مآربه ) |
( أخو بيضات رائح متأوب | رفيق لمسح المنكبين سبوح ) |
وقد اختلف العلماء في حد العروة قال القرطبي : أجمع المسلمون على أن السوءتين عورة من الرجل والمرأة وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها على خلاف ذلك وقال الأكثر : إن عروة الرجل من سرته إلى ركبته ﴿ ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ﴾ أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه من الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال قال الزجاج : وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها ثم أرشد عباده إلى التوبة عن المعاصي فقال سبحانه :﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ﴾ فيه الأمر بالتوبة ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين وقد تقدم الكلام على التوبة في سورة النساء ثم ذكر ما يرغبهم في التوبة فقال :﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة وقيل إن المراد بالتوبة هنا هي عما كانوا يعملونه في الجاهلية والأول أولى لما تقرر في السنة أن الإسلام يجب ما قبله
وقد أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال :[ مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في طريق من طرقات المدينة فنظر إلى المرأة ونظرت إليه فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه فقال : والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعلمه أمري فأتاه فقص عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هذا عقوبة ذنبك وأنزل الله ﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ﴾ الآية ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ﴾ قال : يعني من شهواتهم مما يكره الله وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والبيهقي في سننه عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسل :[ لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الأخرى ] وفي مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي عن جرير البجلي قال :[ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري ] وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد قال :[ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا نتحدث فيها فقال : إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه قالوا : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ] وأخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال [ قلت : يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت : يا نبي الله إذا كان القوم بعضهم في بعض قال : إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها قلت : إذا كان أحدنا خاليا قال : فالله أحق أن يستحيا منه من الناس ] وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ كتب الله على ابن آدم حظه من الزنا أدرك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق وزنا الأذنين السماع وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين الخطو والنفس تتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ] وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه ] والأح