قوله : ٦٩ - ﴿ لا تكونوا كالذين آذوا موسى ﴾ هو قولهم : إن به أدرة أو برصا أو عيبا وسيأتي بيان ذلك آخر البحث وفيه تأديب للمؤمنين وزجر لهم عن أن يدخلوا في شيء من الأمور التي تؤذي رسول الله قال مقاتل : وعظ الله المؤمنين أن لا يؤذوا محمدا صلى الله عليه و سلم كما آذى بنو إسرائيل موسى وقد وقع الخلاف فيما أوذي به نبينا محمد صلى الله عليه و سلم حتى نزلت هذه الآيةن فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا قولهم زيد بن محمد وقال أبو وائل : إنه صلى الله عليه و سلم قسم قسما فقال رجل من الأنصار : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله وقيل نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش وما سمع فيها من قالة الناس ومعنى ﴿ وكان عند الله وجيها ﴾ وكان عند الله عظيما ذا وجاهة والوجيه عند الله العظيم القدر الرفيع المنزلة وقيل في تفسير الوجاهة إنه كلمه تكليما قرأ لاجمهور ﴿ وكان عند الله ﴾ بالنون على الظرفية المجازية وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة عبد الله بالباء الموحدة من العبودية وما في قوله :﴿ فبرأه الله مما قالوا ﴾ هي الموصولة أو المصدرية : أي من الذي قالوه
أو من قوله : ٧٠ - ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾ أي في كل أمر من الأمور ﴿ وقولوا قولا سديدا ﴾ أي قولا صوابا وحقا قال قتادة ومقاتل : يعني قولوا قولا سديدا في شأن زيد وزينب ولا تنسبوا النبي صلى الله عليه و سلم إلى ما لا يحل وقال عكرمة : إن القول السديد لا إله إلا الله وقيل هو الذي يوافق ظاهره باطنه وقيل هو ما أريد به وجه الله دون غيره وقيل هو الإصلاح بين الناس والسديد مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولا سديدا في جميع ما يأتونه ويذرونه فال يخص ذلك نوعا دون نوع وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم فالمقام يفيد هذا المعنى لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولا يخالرف قول أهل الأذى
ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر فقال : ٧١ - ﴿ يصلح لكم أعمالكم ﴾ أي يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديهم إليه ويفقهم فيه ﴿ ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ أي يجعلها مكفرة مغفورة ﴿ ومن يطع الله ورسوله ﴾ في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية ﴿ فقد فاز فوزا عظيما ﴾ أي ظفر بالخير ظفرا عظيما ونال خير الدنيا والآخرة وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما سبقها
ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها فقال : ٧٢ - ﴿ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ﴾
واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا فقال الواحدي : معنى الأمانة ههنا في قوله جميع المفسرين الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب قال القرطبي : والأمانة تعم الجميع وصائف الدين على الصحيح من الأقوال وهو قول الجمهور
وقد اختلف في تفاصيل بعضها فقال ابن مسعود : هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها وروي عنه أنها في كل الفرائض وأشدها أمانة المال وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها وقال أبو الدرداء : غسر الجنابة أمانة وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها وقال ابن عمر : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة استودعكها فلا تلبسها إلا بحق فإن حفظتها حفظتك فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واللسان أمانة والبطن أمانة واليد أمانة والرجل أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة له وقال السدي : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل وخيانته إياه في قتله وما أبعد هذا القول وليت شعري ما هو الذي سوغ للسدي تفسير هذه الآية بهذا فإن كان ذلك لدليل دله على ذلكح فلا دليل وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد وأوهن من بيوت العنكبوت وإن كان تفسير هذا عملا بما تقتضيه اللغة العربية فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أول هذا العالم وإن كان هذا تفسيرا منه بمحض الرأين فليس الكتاب العزيز عرضه لتلاعب آراء الرجال به ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية فهو قرآن عربي كما وصفه الله فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تلتفت إلى غيره وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وكذلك ما جاء عنه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها فخذ هذه كلية تنتفع بها وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا قال الحسن : إن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فقالت : وما فيها ؟ فقال لها : إن أحسنت آجرتك وإن أسأت عذبتك فقالت لا قال مجاهد : فلما خلق الله آدم عرضها عليه وقيل له ذلك فقال : قد تحملتها وروي نحو هذا عن غير حسن ومجاهد قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير وقيل هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها كذا قال بعض المتكلمين مفسرا للقرآن برأيه الزائف فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا قال جماعة من العلماء : ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب فلا بد من تقدير الحياة فيها وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام وقال القفال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل : أي إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو انت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب : أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل وهذا كقوله :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ﴾ وقيل إن عرضنا بمعنى عارضنا : أي عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها وقيل إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها وهذا أيضا تحريف لا تفسير ومعنى ﴿ وحملها الإنسان ﴾ أي التزم بحقها وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير ن أو جهول بربه كما قال الحسن وقال الزجاج : معنى حملها خان فيها وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة وقيل معنى حملها : كلفها وألزمها أو صار مستعدا لها بالفطرة أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم


الصفحة التالية
Icon