٣٨ - ﴿ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ﴾ متعلق بمحذوف : أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ﴿ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ﴾ : أي أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف وقيل المراد بما في هذه الآية ما يتفضل سبحانه به عليهم زيادة على ما يستحقونه والأول أولى لقوله :﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به ﴿ والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه أو أن عطاءه سبحانه لا نهاية له والجملة مقررة لما سبقها من الوعد بالزيادة
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ الله نور السموات والأرض ﴾ قال : يدبر الأمر فيهما نجومهما وقمرهما وأخرج الفريابي عنه في قوله :﴿ الله نور السموات والأرض مثل نوره ﴾ الذي أعطاه المؤمن ﴿ كمشكاة ﴾ وقال في تفسير :﴿ زيتونة لا شرقية ولا غربية ﴾ إنها التي في سفح جبل لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت ﴿ يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور ﴾ فذلك مثل قلب المؤمن نور على نور وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن الشعبي قال : في قراءة أبي بن كعب مثل نور المؤمن كمشكاة وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال : يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة وهي الكوة وأخرج ابن أبي حاتم عنه ﴿ مثل نوره ﴾ قال : هي خطأ من الكاتب هو أعظم من أن يكون مثل نوره المشكاة قال : مثل نور المؤمن كمشكاة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا ﴿ الله نور السموات والأرض ﴾ قال : هادي أهل السموات والأرض ﴿ مثل نوره ﴾ مثل هداه في قلب المؤمن ﴿ كمشكاة ﴾ يقول موضع الفتيلة كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور وفي إسناده علي بن أبي طلحة وفيه مقال وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي بن كعب ﴿ الله نور السموات والأرض مثل نوره ﴾ قال : هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال :﴿ نور السموات والأرض مثل نوره ﴾ فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فقال مثل نور من آمن به فكان أبي بن كعب يقرأها مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره ﴿ كمشكاة ﴾ قال : فصدر المؤمن المشكاة ﴿ فيها مصباح المصباح ﴾ النور وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره ﴿ في زجاجة ﴾ و ﴿ الزجاجة ﴾ قلبه ﴿ كأنها كوكب دري ﴾ يقول كوكب مضيء ﴿ يوقد من شجرة مباركة ﴾ والشجرة المباركة : أصل المبارك الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له ﴿ زيتونة لا شرقية ولا غربية ﴾ قال : فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن وأخرج ابن أبي جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره فقال :﴿ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة ﴾ المشكاة كوة البيت فيها مصباح وهو السراج يكون في الزجاجة وهو مثل ضربه الله لطاعته فسمى طاعته نورا ثم سماها أنواعا شتى ﴿ لا شرقية ولا غربية ﴾ قال : وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت وذلك أجود الزيت ﴿ يكاد زيتها يضيء ﴾ بغير نار ﴿ نور على نور ﴾ يعني بذلك إيمان العبد وعلمه ﴿ يهدي الله لنوره من يشاء ﴾ وهو مثل المؤمن وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله :﴿ كمشكاة فيها مصباح ﴾ قال : المشكاة في جوف محمد صلى الله عليه و سلم والزجاجة قلبه والمصباح النور الذي في قلبه ﴿ يوقد من شجرة مباركة ﴾ الشجرة إبراهيم ﴿ زيتونة لا شرقية ولا غربية ﴾ لا يهودية ولا نصرانية ثم قرأ ﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن شمر بن عطية قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال حدثني عن قوله الله :﴿ الله نور السموات والأرض مثل نوره ﴾ قال : مثل نور محمد صلى الله عليه و سلم كمشكاة قال : المشكاة الكوة ضربها الله مثلا لقمة فيها مصباح والمصباح قلبه ﴿ المصباح في زجاجة ﴾ والزجاجة صدره ﴿ كأنها كوكب دري ﴾ شبه صدر محمد صلى الله عليه و سلم بالكوكب الدري ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال :﴿ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ﴾ قال : يكاد محمد صلى الله عليه و سلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار
وأقول : إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدم عن أبي بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يجوز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية ولكن هؤلاء الصحابة ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة ولهذا قال ابن عباس : هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدمنا عنه ولا وجه لهذا الاستبعاد فإنا قد قدمنا في أول البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه وأبلغ أسلوب وعلى ما تقتضيه لغة العرب ويفيده كلام الفصحاء فلا وجه للعدول عن الظاهر لا من كتاب ولا من سنة ولا من لغة وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدمنا فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا وقد نبهناك فيما سبق أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيرا فلا تقوم به الحجة ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي نعم إن صحت قراءة أبي بن كعب كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر وتكون كالزيادة المبينة للمراد وإن لم تصح فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة وغيرهم ممن قبلهم وممن بعدهم هو المتعين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ﴾ قال : هي المساجد تكرم وينهى عن اللغو فيها ويذكر فيها اسم الله يتلى فيها كتابه ﴿ يسبح له فيها بالغدو والآصال ﴾ صلاة الغداة وصلاة العصر وهما أول ما فرض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما ويذكر بهما عباده وقد ورد في تعظيم المساجد وتنزيهها عن القذر واللغو وتنظيفها وتطبيقها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها إلا غواص في قوله :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله :﴿ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ﴾ قال : هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وأخرج ابن مردويه والديلمي عن ابن سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله :﴿ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ﴾ قال : هم الذي يبتغون من فضل الله وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال : ضرب الله هذا المثل قوله :﴿ كمشكاة ﴾ لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وكانوا أتجر الناس وأبيعهم ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا عن ذكر الله قال : عن شهود الصلاة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ثم دخلوا المسجد فقال ابن عمر فيهم نزلت :﴿ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ﴾ وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه رأى ناسا من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم فقال : هؤلاء الذي قال الله فيهم :﴿ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ﴾ وأخرج هناد بن السري في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب ومحمد بن نصر في الصلاة عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي ينفذهم البصر فيقوم مناد فينادي : أين الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء ؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادي : أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادى : ليقم الذين كانوا لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون ] وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر مرفوعا نحوه


الصفحة التالية
Icon