ثم ذكر سبحانه صفة أخرى لهم فقال : ٤٥ - ﴿ يطاف عليهم بكأس من معين ﴾ ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير متقابلين والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء فيه الشراب فإن كان فارغا فليس بكأس وقال الضحاك والسدي : كل كأس في القرآن فهي الخمر قال النحاس : وحكى من يوثق به من أهل اللغة أن العرب تقول لقدح إذا كان فيه خمر كأس فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام مائدة فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة ومن معين متعلق بمحذوف هو صفة لكأس قال الزجاج : بكأس من معين : أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض والمعين الماء الجاري
وقوله : ٤٦ - ﴿ بيضاء لذة للشاربين ﴾ صفتان لكأس قال الزجاج : أي ذات لذة فحذفت المضاف ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذة فلا يحتاج إلى تقدير المضاف قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن له لذة لذيذة يقال شراب لذ ولذيذ كما يقال نبات غض وغضيض ومنه قول الشاعر :

( بحديثها اللذ الذي لو كلمت أسد الفلاة به أتين سراعا )
واللذيذ : كل شيء مستطاب وقيل البيضاء : هي التي لم يعتصرها الرجال
ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا فقال : ٤٧ - ﴿ لا فيها غول ﴾ أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع ﴿ ولا هم عنها ينزفون ﴾ أي يسكرون : يقال نزف الشارب فهو منزوف ونزيف إذا سكر ومنه قول امرئ القيس :
( وإذا هي تمشي كمش النزيـ ف يصرعه بالكثيب البهر )
وقال أيضا :
( نزيف إذا قامت لوجه تمايلت )
ومنه قول الآخر :
( فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج )
قال الفراء : العرب تقول ليس فيها غلية وغائلة وغول سواء وقال أبو عبيدة : الغول أن تغتال عقولهم وأنشد قول مطيع بن إياس :
( وما زالت الكأس تغتالهم وتذهب بالأول الأول )
وقال الواحدي : الغول حقيقته الإهلاك يقال غاله غولا واغتاله : أي أهلكه والغول كل ما اغتالك : أي أهلكك قرأ الجمهور ﴿ ينزفون ﴾ بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الرجل : إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف ومنزف يقال أحصد الزرع : إذا حان حصاده وأقطف الكرم : إذا حان قطافه قال الفراء : من كسر الزاي فله معنيان يقال أنزف الرجل : إذا فنيت خمره وأنزف : إذا ذهب عقله من السكر وتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة قال النحاس : والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى لأن معنى لا ينزفون عند جمهور المفسرين : لا تذهب عقولهم فنفى الله عز و جل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر وقال الزجاج وأبو علي الفارسي معنى : لا ينزفون بكسر الزاي : لا يسكرون قال المهدوي : لا يكون معنى ينزفون يسكرون لأن قبله ﴿ لا فيها غول ﴾ أي لا تغتال عقولهم فيكون تكريرا وهذا يقوي ما قاله قتادة : إن الغول وجع البطن وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال الحسن : إن الغول الصداع وقال ابن كيسان : هو المغص فيكون معنى الآية : لا فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص أو وجع بطن أو صداع أو عربدة أو لغو أو تأثيم ولا هم يسكرون منها ويؤيد هذا أن أصل الغول الفساد الذي يلحق في خفاء يقال اغتاله اغتيالا : إذا أفسد عليه أمره في خفية ومنه الغول والغيلة القتل خفية وقرأ ابن أبي إسحاق ينزفون بفتح الياء وكسر الزاء وقرأ طلحة بن مصرف بفتح الياء وضم الزاي


الصفحة التالية
Icon