٩٩ - ﴿ قال إني ذاهب إلى ربي ﴾ أي مهاجر من بلد قومي الذين فعلوا ما فعلوا تعصبا للأصنام وكفرا بالله وتكذيبا لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه أو إلى حيث أتمكن من عبادته ﴿ سيهدين ﴾ أي سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه أو إلى مقصدي
وقيل إن الله سبحانه أمره بالمسير إلى الشام وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى
قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال : ١٠٠ - ﴿ رب هب لي من الصالحين ﴾ أي ولدا صالحا من الصالحين يعينني على طاعتك ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد فتحمل عند الاطلاق عليه وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله :﴿ ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ﴾ وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد
فقوله : ١٠١ - ﴿ فبشرناه بغلام حليم ﴾ يدل على أنه ما أراد بقوله :﴿ رب هب لي من الصالحين ﴾ إلا الولد ومعنى حليم : أن يكون حليما عند كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر ويصير حليما لأن الصغير لا يوصف بالحلم قال الزجاج : هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم
١٠٢ - ﴿ فلما بلغ معه السعي ﴾ في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة والتقدير : فوهبنا له الغلام فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه قال مجاهد :﴿ فلما بلغ معه السعي ﴾ أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم وقال مقاتل : لما مشى معه قال الفراء كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقال الحسن : هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة وقال ابن زيد : هو السعي في العبادة وقيل هو الاحتلام ﴿ قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ﴾ قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ : إني رأيت في المنام هذه الرؤيا قال مقاتل : رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات قال قتادة : رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا فعلوه
وقد اختلف أهل العلم في الذبيح ؟ هل هو إسحاق أو إسماعيل قال القرطبي : فقال أكثرهم : الذبيح إسحاق وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابن عبد الله وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود ورواه أيضا عن جابر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب قال : فهؤلاء سبعة من الصحابة قال : ومن التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي برزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس كلهم قالوا الذبيح إسحاق وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى واختاره غير واحد منهم النحاس وابن جرير الطبري وغيرهما قال وقال آخرون : هو إسماعيل وممن قال بذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة قال ابن كثير في تفسيره : وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة وليس في ذلك كتاب ولا سنة وما أظن ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب وأخذ مسلما من غير حجة وكتاب الله شاهد مرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم وذكر أنه الذبيح وقال بعد ذلك ﴿ وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ﴾ اهـ
واحتج القائلون بأنه إسحاق بأن الله عز و جل قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال :﴿ إني ذاهب إلى ربي سيهدين ﴾ أنه دعا فقال :﴿ رب هب لي من الصالحين ﴾ فقال تعالى ﴿ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب ﴾ ولأن الله قال :﴿ وفديناه بذبح عظيم ﴾ فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم وإنما بشر بإسحاق لأنه قال :﴿ وبشرناه بإسحاق ﴾ وقال هنا ﴿ بغلام حليم ﴾ وذلك قبل أن يعرف هاجر وقبل أن يصير له إسماعيل وليس في القرآن أنه بشر بولد إلى إسحاق قال الزجاج الله أعلم أيهما الذبيح اه وما استدل به الفريقان يمكن الجواب عنه والمناقشة له
ومن جملة ما احتج به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله :﴿ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ﴾ وهو صبره على الذبح ووصفه بصدق الوعد في قوله :﴿ إنه كان صادق الوعد ﴾ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به ولأن الله سبحانه قال :﴿ وبشرناه بإسحاق نبيا ﴾ فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا وأيضا فإن الله قال :﴿ فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾ فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة فدل على أن الذبيح إسماعيل ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعا ببيت المقدس وكل هذا أيضا يحتمل المناقشة ﴿ فانظر ماذا ترى ﴾ قرأ حمزة والكسائي ﴿ تري ﴾ بضم الفوقية وكسر الراء والمفعولان محذوفان : أي انظر ماذا تريني إياه من صبرك واحتمالك وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء والراء من الرأي وهو مضارع رأيت وقرأ الضحاك والأعمش ترى بضم التاء وفتح الراء مبنيا للمفعول : أي ماذا يخيل إليك ويسنح لخاطرك قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى : انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك قال الزجاج : لم يقل هذا أحد غيره وإنما قال العلماء ماذا تشير : أي ما تريك نفسك من الرأي وقال أبو عبيد : إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة وكذا قال أبو حاتم وغلطهما النحاس وقال : هذا يكون من رؤية العين وغيرها ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله وإلا فرؤيا الأنبياء وحي وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم ﴿ قال يا أبت افعل ما تؤمر ﴾ أي ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي وما موصولة وقيل مصدرية على معنى افعل أمرك والمصدر مضاف إلى المفعول وتسمية المأمور به أمرا والأول أولى ﴿ ستجدني إن شاء الله من الصابرين ﴾ على ما ابتلاني به من الذبح والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركا بها منه


الصفحة التالية
Icon