لما ذكر سبحانه الآخرة ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها والنفرة منها فذكر تمثيلا لها في سرعة زوالها وقريب اضمحلالها مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة وصنعه البديع فقال : ٢١ - ﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ﴾ أي من السحاب مطرا ﴿ فسلكه ينابيع في الأرض ﴾ أي فأدخله وأسكنه فيها والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع والينبوع عين الماء والأمكنة التي ينبع منها الماء والمعنى أدخل الماء النازل من السماء في الأرض وجعله فيها عيونا جارية أو جعله في ينابيع : أي في أمكنة ينبع منها الماء فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض قال مقاتل : فجعله عيونا وركايا في الأرض ﴿ ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ﴾ أي يخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا ألوانه من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر أو من بر وشعير وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف ﴿ ثم يهيج ﴾ يقال هاج النبت يهيج هيجا إذا تم جفافه قال الجوهري : يقال هاج النبت هياجا : إذا يبس وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر وأهاجت الريح النبت أيبسته قال المبرد : قال الأصمعي : يقال هاجت الأرض تهيج : إذا أدبر نبتها وولى قال : وكذلك هاج النبت ﴿ فتراه مصفرا ﴾ أي تراه بعد خضرته ونضارته وحسن رونقه مصفرا قد ذهبت خضرته ونضارته ﴿ ثم يجعله حطاما ﴾ أي متفتتا منكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس ﴿ إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ﴾ أي فيما تقدم ذكره تذكير لأهل العقول الصحيحة فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها فيتفكرون ويعتبرون ويعلمون بأن الحياة الدنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم وقرب التقضي وذهاب بهجتها وزوال رونقها ونضارتها فإذا أنتج لهم التفكر والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها والميل إليها وإيثارها على دار النعيم الدائم والحياة المستمرة واللذة الخالصة ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر لأن من قدر على هذا قدر على ذلك وقيل هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض والمعنى : أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين ثم يخرجبه دينا بعضه أفضل من بعض فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير وقرأ الجمهور ﴿ ثم يجعله ﴾ بالرفع عطفا على ما قبله وقرأ أبو بشر بالنصب بإضمار أن ولا وجه لذلك
ثم لما ذكر سبحانه أن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ذكر شرح الصدر للإسلام لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به فقال : ٢٢ - ﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام ﴾ أي وسعه لقبول الحق وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير قال السدي : وسع صدره للإسلام للفرح به والطمأنينة إليه والكلام في الهمزة والفاء كما تقدم في ﴿ أفمن حق عليه كلمة العذاب ﴾ ومن مبتدأ وخبرها محذوف تقديره كم قسا قلبه وجرح صدره ودل على هذا الخبر المحذوف قوله :﴿ فويل للقاسية قلوبهم ﴾ والمعنى : أفمن وسع الله صدره للإسلام فقلبه واهتدى بهديه ﴿ فهو ﴾ بسبب ذلك الشرح ﴿ على نور من ربه ﴾ يفيض عليه كمن قسا قلبه لسوء اختياره فصار في ظلمات الضلالة وبليات الجهالة قال قتادة : النور كتاب الله به يؤخذ وإليه ينتهى قال الزجاج : تقدير الآية : أفمن شرح الله صدره كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته ﴿ فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ﴾ قال الفراء والزجاج ك أي عن ذكر الله كما تقول أتخمت عن طعام أكلته ومن طعام أكلته والمعنى : أنه غلظ قلبه وجفا عن قبول ذكر الله يقال قسا القلب إذا صلب وقلب قاس : أي صلب لا يرق ولا يلين وقيل معنى من ذكر الله من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب والمعنى : أنه إذا ذكر الله اشمأزوا والأول أولى ويؤيده قراءة من قرأ عنذكر الله والإشارة بقوله :﴿ أولئك ﴾ إلى القاسية قلوبهم وهو مبتدأ وخبره ﴿ في ضلال مبين ﴾ أي ظاهر واضح