ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم فقال : ٥٠ - ﴿ أفي قلوبهم مرض ﴾ وهذه الهمزة للتوبيخ والتقريع لهم والمرض النفاق : أي أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم ﴿ أم ارتابوا ﴾ وشكوا في أمر نبوته صلى الله عليه و سلم وعدله في الحكم ﴿ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ﴾ والحيف الميل في الحكم يقال حاف في قضيته : أي جار فيما حكم به ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدرها بالاستفهام الإنكاري فقال :﴿ بل أولئك هم الظالمون ﴾ أي ليس ذلك لشيء مما ذكر بل لظلمهم وعنادهم فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه لأن العلماء ورثة الأنبياء والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب والسنة العادلين في القضاء هو حكم بحكم الله وحكم رسوله فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله وإلى رسوله : أي إلى حكمهما قال ابن خويز منداد : واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق قال القرطبي : في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال :﴿ أفي قلوبهم مرض ﴾ الآية انتهى فإن كان القاضي مقصرا لا يعلم بأحكام الكتاب والسنة ولا يعقل حجج الله ومعاني كلامه وكلام رسوله بل كان جاهلا جهلا بسيطا وهو من لا علم له بشيء من ذلك أو جهلا مركبا وهو من لا علم عنده بما ذكرنا ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين واكلع على شيء من علم الرأي فهذا في الحقيقة جاهل وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم فاعتقاده باطل فمن كان من القضاة هكذا فلا تجب الإجابة إليه لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه بل هو من قضاة الطاغوت وحكام الباطل فإن ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب والسنة ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده وإذا تقرر لديك هذا وفهمته حق فهمه علمت أن التقليد والانتساب إلى عالم من العلماء دون غيره والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة والفواقر الموحشة فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه القول المفيد في حكم التقليد وفي مؤلفنا الذي سميناه أدب الطلب ومنتهى الأرب فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية فليرجع إليهما
ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله فقال : ٥١ - ﴿ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ﴾ قرأ الجمهور بنصب ﴿ قول ﴾ على أنه خبر كان واسمها أن يقولوا وقرأ علي والحسن وابن أبي إسحاق برفع قول على أنه الاسم وأن المصدرية وما في حيزها الخبر وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرر عند النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان وكانت إحداهما أعرف جعلت التي هي أعرف اسما وأما سيبويه فقد خير بين كل معرفتين ولم يفرق هذه التفرقة وقد قدمنا الكلام على الدعوة إلى الله ورسوله للحكم بين المتخاصمين وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة ومن لا تجب ﴿ أن يقولوا سمعنا وأطعنا ﴾ أي أن يقولوا هذا القول لا قولا آخر وهذا وإن كان على طريقة الخبر فليس المراد به ذلك بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر والمعنى : أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة والإذعان قال مقاتل وغيره : يقولون سمعنا قول النبي صلى الله عليه و سلم وأطعنا أمره وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرهم ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله :﴿ وأولئك ﴾ أي المؤمنون الذين قالوا هذا القول ﴿ هم المفلحون ﴾ أي الفائزون بخير الدنيا والآخرة