٥٧ - ﴿ أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ﴾ أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ﴾ فهي كلمة حق يريدون بها باطلا
ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوا فقال : ٥٨ - ﴿ أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة ﴾ أي رجعة إلى الدنيا ﴿ فأكون من المحسنين ﴾ المؤمنين بالله الموحدين له المحسنين في أعمالهم وانتصاب أكون إما لكونه معطوفا على كرة فإنها مصدر وأكون في تأويل المصدر : كما في قول الشاعر :

( للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف )
وأنشد الفراء على هذا :
( فما لك منها غير ذكرى وخشية وتسأل عن ركبانها أين يمموا )
وإما لكونه جواب التمني المفهوم من قوله :﴿ لو أن لي كرة ﴾
ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفوس المتمنية المتعللة بغير علة فقال : ٥٩ - ﴿ بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ﴾ المراد بالآيات هي الآيات التنزيلية وهو القرآن ومعنى التكذيب بها قوله : إنها ليس من عند الله وتكبر عن الإيمان بها وكان مع ذلك التكذيب والاستكبار من الكافرين بالله وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله : جاءتك وكذبت واستكبرت وكنت لأن النفس تطلق على المذكر والمؤمن قال المبرد : تقول العرب نفس واحد : أي إنسان واحد وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور وقرأ الجحدري وأبو حيوة ويحيى بن يعمر بكسرها في جميعها وهي قراءة أبي بكر وابنته عائشة وأم سلمة ورويت عن ابن كثير
٦٠ - ﴿ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ﴾ أي ترى الذين كذبوا على الله بأن له شركاء وصاحبة وولدا وجوههم مسودة لما أحاط بهم من العذاب وشاهدوه من غضب الله ونقمته وجملة وجوههم مسودة في محل نصب على الحال قال الأخفش : ترى غير عامل في وجوههم مسودة إنما هو مبتدأ وخبر والأول أن ترى إن كانت من الرؤية البصرية فجملة وجوههم مسودة حالية وإن كانت قلبية فهي في محل نصب على أنها المفعول الثاني لترى والاستفهام في قوله :﴿ أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ﴾ للتقرير : أي ليس فيها مقام للمتكبرين عن طاعة الله والكبر هو بطر الحق وغمط الناس كما ثبت في الحديث الصحيح
٦١ - ﴿ وينجي الله الذين اتقوا ﴾ أي اتقوا الشرك ومعاصي الله والباء في ﴿ بمفازتهم ﴾ متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول : أي ملتبسين بمفازتهم قرأ الجمهور ﴿ بمفازتهم ﴾ بالإفراد على أنها مصدر ميمي والفوز : الظفر باخير والنجاة من الشر قال المبرد : المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة وإن جمع فحسن : كقولك السعادة والسعادات والمعنى ينجيهم الله بفوزهم : أي بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ﴿ بمفازتهم ﴾ جمع مفازة وجمعها مع كونها مصدرا لاختلاف الأنواع وجملة ﴿ لا يمسهم السوء ﴾ في محل نصب على الحال من الموصول وكذلك جملة ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ في محل نصب على الحال : أي ينفي السوء والحزن عنهم يوجوز أن تكون الباء في بمفازتهم للسببية : أي بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم لأنهم رضوا بثواب الله وأمنوا من عقابه
وقد أخرج ابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صيحيح وابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ الآية في مشركي أهل مكة وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال : كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئا عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم وكانوا يقولونه لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أنزل الله فيهم ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ الآيات قال ابن عمر : فكتبتها بيدي ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال : لما أسلم وحشي أنزل أنزل الله ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾ قال وحشي وأصحابه : قد ارتكبنا هذا كله فأنزل الله ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ الآية وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال :[ خرج النبي صلى الله عليه و سلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدثون فقال : والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ثم انصرف وأبكى القوم وأوحى الله إليه : يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أبشروا وسددوا وقاربوا ] وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن أفتن وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوه إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك وقتل الأنفس وغير ذلك وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه واليبيهقي في الشعب عن ثوبان : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :[ ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾ إلى آخر الآية فقال رجل ومن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه و سلم قال ألا ومن أشرك ثلاث مرات ] وأخرج أحمد وعبد بن حيمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم ] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه مر على قاض يذكر الناس فقال : يا مذكر الناس لا تقنط الناس ثم قرأ ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ الآية وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال : قال علي : أي آية أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن ﴿ من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ﴾ الآية ونحوها فقال علي : ما في القرآن أوسع من ﴿ يا عبادي ﴾ الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله :﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾ الآية قال : قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله ومن زعم أن عزيزا ابن الله ومن زعم أن الله فقير ومن زعم أن يد الله مغلولة ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء ﴿ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ﴾ ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء من ﴿ قال أنا ربكم الأعلى ﴾ وقال ﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ قال ابن عباس ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ أن تقول نفس ﴾ قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا وعلمهم قبل أن يعلموا


الصفحة التالية
Icon