ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال :﴿ لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾ أي أعظم في النفوس وأجل في الصدور لعظم أجرامهما واستقرارهما من غير عمد وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب فكيف ينكرون البعث وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله :﴿ أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ﴾ قال أبو العالية : المعنى خلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود وقال يحيى بن سلام : هو احتجاج على منكري البعث : أي هما أكبر من إعادة خلق الناس ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ بعظيم قدرة الله وأنه لا يعجزه شيء
ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالا للباطل والحق وأنهما لا يستويان فقال :﴿ وما يستوي الأعمى والبصير ﴾ أي الذي يجادل بالباطل والذي يجادل بالحق ﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء ﴾ أي ولا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح والمسيء بالكفر والمعاصي وزيادة لا في ولا المسيء للتأكيد ﴿ قليلا ما تتذكرون ﴾ قرأ الجمهور ﴿ يتذكرون ﴾ بالتحتية على الغيبة واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لأن قبلها وبعدها على الغيبة لا على الخطاب وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات : أي تذكرا قليلا ما تتذكرون
٥٩ - ﴿ إن الساعة لآتية لا ريب فيها ﴾ أي لا شك في مجيئها وحصولها ﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ بذلك ولا يصدقونه لقصور أفهامهم وضعف عقولهم عن إدراك الحجة والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث
ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه ولا شبهة أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود فأمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو ٦٠ - ﴿ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ﴾ قال أكثر المفسرين المعنى : وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم وقيل المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر قيل الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة قلت : بل الثاني أولى لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعا هو الطلب فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة ووعده الحق وما يبدل القول لديه ولا يخلف الميعاد ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال :﴿ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ﴾ أي ذليلين صاغرين وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله وفيه لطف بعباده عظيم وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة فيا عباد الله وجهوا رغباتكم وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه وأرشدكم إلى التعويل عليه وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين قيل وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة : أي أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه :﴿ فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ﴾ الله قرأ الجمهور ﴿ سيدخلون ﴾ بفتح الياء وضم الخاء مبنيا للفاعل وقرأ ابن كثير وابن محيصن وورش وأبو جعفر بضم الياء وفتح الخاء مبنيا للمفعول


الصفحة التالية
Icon