٢٢ - ﴿ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ﴾ هذا تقريع لهم وتوبيخ من جهة الله سبحانه أو من كلام الجلود : أي ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة حذرا من شهادة الجوارح عليكم ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية وقيل معنى الاستتار الاتقاء : أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة وأن في قوله :﴿ أن تشهد ﴾ في محل نصب على العلة : أي لأجل أن تشهد أو مخافة أن تشهد وقيل منصوبة بنزع الخافض وهو الباء أو عن أو من وقيل إن الاستتار مضمن معنى الظن : أي وما كنتم تظنون أن تشهد وهو بعيد ﴿ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ﴾ من المعاصي فاجترأتم على فعلها قيل كان الكفار يقولون : إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسر قال قتادة : الظن هنا بمعنى العلم وقيل أريد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما هو فوقه من العلم
٢٣ - ﴿ و ﴾ الإشارة بقوله :﴿ ذلكم ﴾ إلى ما ذكر من ظنهم وهو مبتدأ وخبره ﴿ ظنكم الذي ظننتم بربكم ﴾ وقوله :﴿ أرداكم ﴾ خبر آخر للمبتدأ : وقيل إن أرداكم في محل نصب على الحال المقدرة وقيل إن ظنكم بدل من ذلكم والذي ظننتم خبره وأرداكم خبر آخر أو حال وقيل إن ظنكم خبر أول والموصول وصلته خبر ثان وأرداكم خبر ثالث والمعنى : أن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم وطرحكم في النار ﴿ فأصبحتم من الخاسرين ﴾ أي الكاملين في الخسران
ثم أخبر على حالهم فقال : ٢٤ - ﴿ فإن يصبروا فالنار مثوى لهم ﴾ أي فإن يصبروا على النار فالنار مثواهم : أي محل استقرارهم وإقامتهم لا خروج لهم منها وقيل المعنى : فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مثوى لهم ﴿ وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين ﴾ يقال أعتبني فلان : أي أرضاني بعد إسخاطه إياي واستعتبته طلبت منه أن يرضى والمعنى : أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع لأنهم لا يستحقون ذلك قال الخليل : تقول استعتبته فأعتبني : أي استرضيته فأرضاني ومعنى الآية : إن يطلبوا الرضى لم يقع الرضى عنهم بل لا بد لهم من النار قرأ الجمهور ﴿ يستعتبوا ﴾ بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية الثانية مبنيا للفاعل وقرأوا ﴿ من المعتبين ﴾ بفتح الفوقية اسم مفعول وقرأ الحسن وعبيد بن عمير وأبو العالية يستعتبوا مبنيا للمفعول فما هم من المعتبين اسم فاعل : أي إنهم إن أقالهم الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾
وقد أخرج الطبراني عبن ابن عباس في قوله :﴿ فهم يوزعون ﴾ قال : يحبس أولهم على آخرهم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : يدفعون وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر : قرشي وثقيفيان أو ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ؟ فقال الآخران : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإنا إذا لم نرفعه لم يسمعه فقال الآخران : إن سمع منه شيئا سمعه كله قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله ﴿ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ﴾ إلى قوله :﴿ من الخاسرين ﴾ وأخرج عبد الرزاق وأحمد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه و سلم :[ تحشرون ها هنا وأومأ بيده إلى الشام مشاة وركبانا وعلى وجوهكم وتعرضون على الله وعلى أفواهكم الفدام وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكتفه وتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم ﴿ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ﴾ ] وأخرج أحمد وأبو داود الطيالسي وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله فقال الله :﴿ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ﴾ ]


الصفحة التالية
Icon