٦١ - ﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ﴾ اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ قال بالأول جماعة من العلماء وبالثاني جماعة قيل إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا : لا ندخلها وهم غيب فنزلت هذه الآية رخصة لهم فمعنى الآية نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو قال النحاس : وهذا القول من أجل ما روي في الآية لما فيه من الصحابة والتابعين من التوقيف وقيل إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم فنزلت وقيل إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج في تأخرهم عن الغزو وقيل كان الرجل إذا أدخل أحدا من هؤلاء الزمنى إلى بيته فلم يجد فيه شيئا يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته فيتحرج الزمنى من ذلك فنزلت ومعنى قوله ﴿ ولا على أنفسكم ﴾ عليكم وعلى من يماثلكم من المؤمنين ﴿ أن تأكلوا ﴾ أنتم ومن معكم وهذا ابتداء كلام : أي ولا عليكم أيها الناس والحاصل أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء أو دخول بيوتهم فيكون ﴿ ولا على أنفسكم ﴾ متصلا بما قبله وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر وعدم العرج وعدم المرض فقوله :﴿ ولا على أنفسكم ﴾ ابتداء كلام غير متصل بما قبله ومعنى ﴿ من بيوتكم ﴾ البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم فيدخل بيوت الأولاد كذا قال المفسرون لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد وذكر بيوت الآباء وبيوت الأمهات ومن بعدهم قال النحاس : وعارض بعضهم هذا فقال : هذا تحكم على كتاب الله سبحانه بل الأولى في الظاهر أن يكون الابن مخالفا لهؤلاء ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث [ أنت ومالك لأبيك ] وحديث [ ولد الرجل من كسبه ] ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الأخوة والأخوات بل بيوت الأعمام والعمات بل بيوت الأخوال والخالات فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء ولا ينفيه عن بيوت الأولاد ؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم وقال آخرون : لا يشترط الإذن قيل وهذا إذا كان الطعام مبذولا فإن كان محرزا دونهم لم يجز لهم أكله ثم قال سبحانه :﴿ أو ما ملكتم مفاتحه ﴾ أي البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها وذلك كالوكلاء والعبيد والخزان فإنهم يملكون التصرف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وإعطائهم مفاتحه وقيل المراد بها بيوت المماليك قرأ الجمهور ﴿ ملكتم ﴾ بفتح الميم وتخفيف اللام وقرأ سعيد بن جبير بضم الميم وكسر اللام مع تشديدها وقرأ أيضا :﴿ مفاتحه ﴾ بباء بين التاء والحاء وقرأ قتادة ﴿ مفاتحه ﴾ على الإفراد والمفاتح جمع مفتح والمفاتيح جمع مفتاح ﴿ أو صديقكم ﴾ أي لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه والصديق يطلق على الواحد والجمع ومنه قول جرير :

( دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأسهم أعداء وهن صديق )
ومثله العدو والخليط والقطين والعشير ثم قال سبحانه :﴿ ليس عليكم جناح أن تأكلوا ﴾ من بيوتكم ﴿ جميعا أو أشتاتا ﴾ انتصاب جميعا وأشتاتا على الحال والأشتات جمع شت والشت المصدر : بمعنى التفرق يقال شت القوم : أي تفرقوا وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله : أي ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين أو متفرقين وقد كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلا يؤاكله فيأكل معه وبعض العرب كان لا يأكل إلا مع ضيف ومنه قول حاتم :
( إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي )
﴿ فإذا دخلتم بيوتا ﴾ هذا شروع في بيان أدب به عباده : أي إذا دخلتم بيوتا غير البيوت التي تقدم ذكرها ﴿ فسلموا على أنفسكم ﴾ أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم وقيل المراد البيوت المذكورة سابقا وعلى القول الأول فقال الحسن والنخعي : هي المساجد والمراد سلموا على من فيها من صنفكم فإن لم يكن في المساجد أحد فقيل يقول : السلام على رسول الله وقيل يقول السلام عليكم مريدا للملائكة وقيل يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقال بالقول الثاني : أعني أنها البيوت المذكورة سابقا جماعة من الصحابة والتابعين وقيل المراد بالبيوت هنا هي كل البيوت المسكونة وغيرها فيسلم على أهل المسكونة وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه قال ابن العربي : القول بالعموم في البيوت هو الصحيح وانتصاب ﴿ تحية ﴾ على المصدرية لأن قوله فسلموا معناه فحيوا : أي تحية ثابتة ﴿ من عند الله ﴾ أي إن الله حياكم بها وقال الفراء : أي إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له ثم وصف هذه التحية فقال ﴿ مباركة ﴾ أي كثيرة البركة والخير دائمتهما ﴿ طيبة ﴾ أي تطيب بها نفس المستمع وقيل حسنة جميلة وقال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب ثم كرر سبحانه فقال :﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات ﴾ تأكيدا لما سبق وقد قدمنا أن الإشارة بذلك إلى مصدر الفعل ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي صلى الله عليه و سلم طعاما فقالت أسماء : يا رسول الله ما أقبح هذا إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن فأنزل الله في ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾ يعني العبيد والإماء ﴿ والذين لم يبلغوا الحلم منكم ﴾ قال : من أحراركم من الرجال والنساء وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في هذه الآية قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن وأخرج ابن مردويه عن ثعلبة القرظي عن عبد الله بن سويد قال :[ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن العورات الثلاث فقال : إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج علي أحد من الخدم من الذين لم يبلغوا الحلم ولا أحد لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء ومن قبل صلاة الصبح ] وأخرجه عبد بن حميد والبخاري في الأدب عن عبد الله بن سويد من قوله وأخرج نحوه أيضا ابن سعد عن سويد بن النعمان وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إنه لم يؤمن بها أكثر الناس : يعني آية الإذن وإني لأمر جاريتي هذه لجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن علي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهن ﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾ والآية التي في سورة النساء ﴿ وإذا حضر القسمة ﴾ الآية والآية التي في الحجرات ﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن عنه أيضا في الآية قال : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبي ولا خادم إلا بإذنه حتى يصلي الغداة وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن وهو قوله :﴿ ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ﴾ فأما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال وهو قوله :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ﴾ وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن بسند صحيح من طريق عكرمة عنه أيضا : أن رجلا سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات التي أمر الله بها في القرآن فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجاب في بيوتهم فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيم في حجره وهو على أهله فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ثم جاء الله بعد بالستور فبسط عليهم في الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجاب فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر في قوله :﴿ ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾ قال : هي على الذكور دون الإناث ولا وجه لهذا التخصيص فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قالت : نزلت في النساء أن يستأذن علينا وأخرج الحاكم وصححه عن علي في الآية قال : النساء فإن الرجال يستأذنون وأخرج الفريابي عن موسى بن أبي شيبة قال : سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي ؟ قال : لا وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء أنه سأل ابن عباس أأستأذن على أختى ؟ قال : نعم قلت : إنها في حجري وإني أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن عليها ؟ قال : نعم إن الله يقول :﴿ ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ﴾ الآية فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلا في هؤلاء العورات الثلاث قال :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ﴾ فالإذن واجب على كل خلق الله أجمعين وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال : عليكم إذن على أمهاتكم وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب عنه قال : يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن جابر نحوه وأخرج ابن جرير والبيهقي في السنن عن عطاء بن يسار [ أن رجلا قال : يا رسول الله أأستأذن على أمي ؟ قال : نعم قال : إني معها في البيت قال : استأذن عليها قال : إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال : أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا قال : فاستأذن عليها ] وهو مرسل وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم وهو أيضا مرسل وأخرج أبو داود والبيهقي في السنن عن ابن عباس ﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ﴾ الآية فنسخ واستثنى من ذلك ﴿ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ﴾ الآية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن عنه قال : هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار وتضع عليها الجلباب ما لم تتبرج بما يكرهه الله وهو قوله :﴿ فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة ﴾ وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي عن ابن عباس أنه كان يقرأ :﴿ أن يضعن ثيابهن ﴾ ويقول : هو الجلباب وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن ا


الصفحة التالية
Icon