ثم لما ذكر سبحانه إلى خلق العالم الصغير أتبعه بخلق العالم الكبير فقال : ٣ - ﴿ خلق السموات والأرض بالحق ﴾ أي بالحكمة البالغة وقيل خلق ذلك خلقا يقينا لا ريب فيه وقيل الباء بمعنى اللام : أي خلق ذلك لإظهار الحق وهو أن يجزي المحسن بإحسانة والمسيء بإساءته ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير فقال :﴿ وصوركم فأحسن صوركم ﴾ قيل المراد آدم خلقه بيده كرامة له كذا قال مقاتل وقيل المراد جميع الخلائق وهو الظاهر : أي أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة وأحسن تقويم وأجمل شكل والتصوير : التخطيط والتشكيل قرأ الجمهور ﴿ فأحسن صوركم ﴾ بضم الصاد وقرأ زيد بن علي والأعمش وأبو زيد بكسرها ﴿ وإليه المصير ﴾ في الدار الآخرة لا إلى غيره
٤ - ﴿ يعلم ما في السموات والأرض ﴾ لا تخفى عليه من ذلك خافية ﴿ ويعلم ما تسرون وما تعلنون ﴾ أي ما تخفونه وما تظهرونه والتصريح به مع اندراجه [ فيما ] قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد ﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ هذه الجملة مقررة لما قبلها من شمول علمه لكل معلوم وهي تذييلية
٥ - ﴿ ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل ﴾ وهم كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود والخطاب لكفار العرب ﴿ فذاقوا وبال أمرهم ﴾ بسبب كفرهم والوبال : الثقل والشدة والمراد بأمرهم هنا ما وقع منهم من الكفر والمعاصي وبالوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ وذلك في الآخرة وهو عذاب النار
والإشارة بقوله : ٦ - ﴿ ذلك ﴾ إلى ما ذكر من العذاب في الدارين وهو مبتدأ وخبره ﴿ بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات ﴾ أي بسبب أنها كانت تأتيهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة ﴿ فقالوا أبشر يهدوننا ﴾ أي قال كل قوم منهم لرسولهم هذا القول منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك وأراد بالبشر الجنس ولهذا قال يهدوننا ﴿ فكفروا وتولوا ﴾ أي كفروا بالرسل وبما جاءوا به وأعرضوا عنهم ولم يتدبروا فيما جاءوا به وقيل كفروا بهذا القول الذي قالوه للرسل ﴿ واستغنى الله ﴾ عن إيمانهم وعبادتهم وقال مقاتل : استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه من المعجزات وقيل استغنى بسلطانه عن طاعة عباده ﴿ والله غني حميد ﴾ أي غير مختاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال والحال
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي الله ما هو قاض فيقول : أشقي أم سعيد ؟ فيكتب ما هو لاق وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله :﴿ وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ﴾ ] وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ العبد يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا والعبد يولد كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا وإن العبد يعمل برهة من دهره بالسعادة ثم يدركه ما كتب له فيموت شقيا وإن العبد يعمل برهة من دهره بالشقاء ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيدا ]


الصفحة التالية
Icon