والإشارة بقوله : ٥ - ﴿ ذلك ﴾ إلى ما ذكر من الأحكام : أي ذلك المذكور من الأحكام ﴿ أمر الله أنزله إليكم ﴾ أي حكمه الذي حكم به بين عباده وشرعه الذي شرعه لهم ومعنى ﴿ أنزله إليكم ﴾ أنزله في كتابه على رسوله وبينه لكم وفصل أحكامه وأوضح حلاله وحرامه ﴿ ومن يتق الله ﴾ بترك ما لا يرضاه ﴿ يكفر عنه سيئاته ﴾ التي اقترفها لأن التقوى من أسباب المغفرة للذنوب ﴿ ويعظم له أجرا ﴾ أي يعطه من الأجر في الآخرة أجرا عظيما وهو الجنة
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾ فقيل له راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة وأخرجه ابن جرير عن قتادة مرسلا وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال :[ طلق عبد يزيد وأبو ركانة أم ركانة ثم نكح امرأة من مزينة فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ما يغني عني إلا ما تغني عني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها فأخذت رسول الله صلى الله عليه و سلم حمية عند ذلك فدعارسول الله صلى الله عليه و سلم ركانة وإخوته ثم قال لجلسائه : أترون كذا من كذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعبد يزيد : طلقها ففعل فقال لأبي ركانة ارتجعها فقال : يا رسول الله إني طلقتها قال : قد علمت ذلك فارتجعها فنزلت :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾ ] قال الذهبي : إسناده واه والخبر خطأ فإن عبد يزيد لم يدرك الإسلام وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما [ عن ابن عمرأنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : ليراجعها ثم يمسكها حتى
تطهر ثم تحيض وتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ] وقرأ النبي صلى الله عليه و سلم :[ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ] وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ فطلقوهن في قبل عدتهن ] وأخرج ابن الأنباري عن ابن عمر أنه قرأ [ فطلقوهن لقبل عدتهن ] وأخرج ابن الأنباري وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد أنه قرأ كذلك وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وبعد بن حميد وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ كذلك وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال : من أراد أن يطلق للسنة كما أمره الله فليطلقها طاهرا في غير جماع وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله :﴿ فطلقوهن لعدتهن ﴾ قال : طاهرا من غير جماع وفي الباب أحاديث وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود ﴿ وأحصوا العدة ﴾ قال : الطلاق طاهرا في غير جماع وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله :﴿ ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ قال : خروجها قبل انقضاء العدة من بيتها هي الفاحشة المبينة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس ﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ قال : الزنا وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال : الفاحشة المبينة أن تبذو المرأة على أهل الرجل فإذا بذت عليهم بلسانها فقد حل لهم إخراجها وأخرج ابن أبي حاتم عن فاطمة بنت قيس في قوله :﴿ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ﴾ قالت : هي الرجعة وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلا سأل عمران بن حصين أن رجلا طلق ولم يشهد قال : بئس ما صنع طلق في بدعة وارتجع في غير سنة [ فليشهد ] على طلاقه وعلى مراجعته ويستغفر الله وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ﴾ قال : مخرجه أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله هو الذي يعطيه وهو يمنعه وهو يبتليه وهو يعافيه وهو يدفع عنه وفي قوله :﴿ ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ قال : من حيث
لا يدري وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ﴾ قال : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة وأخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر قال :[ نزلت هذه الآية ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ﴾ في رجل من أشجع كان فقيرا خفيف ذات اليد كثير العيال فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : اتق الله واصبر فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن له بغنم كان العدو أصابوه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله عنها وأخبره خبرها فقال : كلها فنزلت ﴿ ومن يتق الله ﴾ الآية ] وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال :[ جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني ؟ قال : آمرك وإيها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة : نعم ما أمرك فجعلا يكثران منها فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه فنزلت :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ﴾ ] الآية وفي الباب روايات تشهد لهذا وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية قالت : يكفيه هم الدنيا وغمها وأخرج أحمد
وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي عن أبي ذر قال :[ جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يتلو هذه الآية ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ فجعل يرددها حتى نعست ثم قال : يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم ] وفي الباب أحاديث وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله :﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾ قال : ليس المتوكل الذي يقول تقضى حاجتي وليس كل من يتوكل على الله كفاه ما أهمه ودفع عنه ما يكره وقضى حاجته ولكن الله جعل فضل من توكل على من لم يتوكل أن يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا وفي قوله ﴿ إن الله بالغ أمره ﴾ قال : يقول قاضي أمره على من توكل وعلى من لم يتوكل ولكن المتوكل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا وفي قوله :﴿ قد جعل الله لكل شيء قدرا ﴾ قال : يعني أجلا ومنتهى ينتهي إليه وأخرج ابن المبارك والطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وترح بطانا ] وأخرج إسحاق بن راهويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكر في القرآن : الصغار والكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وذوات الحمل فأنزل الله :﴿ واللائي يئسن من المحيض ﴾ الآية وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وأبو يعلى والضياء في المختارة وابن مردويه عن أبي بن كعب قال :[ قلت للنبي صلى الله عليه و سلم ﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ أهي المطلقة ثلاثا أو المتوفى عنها ؟ قال : هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها ] وأخرج نحوه عنه مرفوعا ابن جرير وابن ابي حاتم وابن مردويه والدارقطني من وجه آخر وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن مسعود أنه بلغه أن عليا قال : تعتد آخر الأجلين فقال : من شاء لاعنته إن الآية التي في سورة القصرى نزلت بعد سورة البقرة ﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ بكذا وكذا أشهرا وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها وروي نحو هذا عنه من طرق وبعضها في صحيح البخاري وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة : أن سبيعة الأسلمية توفى عنها زوجها وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي الباب أحاديث
قوله : ٦ - ﴿ أسكنوهن من حيث سكنتم ﴾ هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان ما يجب للنساء من السكنى ومن للتبعيض : أي بعض مكان سكناكم وقيل زائدة ﴿ من وجدكم ﴾ أي من سعتكم وطاقتكم والوجد القدرة قال الفراء : يقول على ما يجد فإن كان موسعا عليه وسع عليها في المسكن والنفقة وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك قال قتادة : إن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه
وقد اختلف أهل العلم في المطلقة ثلاثا هل لها سكنى ونفقة أم لا ؟ فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة وذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور أنه لا نفقة لها ولا سكنى وهذا هو الحق وقد قررته في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره ﴿ ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ﴾ نهى سبحانه عن مضارتهن بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة وقال مجاهد : في المسكن وقال مقاتل : في النفقة وقال أبو الضحى : هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها ﴿ وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ﴾ أي إلى غاية هي وضعهن للحمل ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : لا ينفق عليها إلا من نصيبها وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة ﴿ فإن أرضعن لكم ﴾ أولادكم بعد ذلك ﴿ فآتوهن أجورهن ﴾ أي أجور إرضاعهن والمعنى : أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلقين لهن منهن فلهن أجورهن على ذلك ﴿ وأتمروا بينكم بمعروف ﴾ هو خطاب للأزواج والزوجات : أي تشاوروا بينكم بما هو معروف غير منكر وليقبل بعضكم من بعض من المعروف والجميل وأصل معناه ليأمر بعضكم بعضا بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم قال مقاتل : المعنى ليتراض الأب والأمر على أجر مسمى قيل والمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر والمعروف الجميل منها أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر ﴿ وإن تعاسرتم ﴾ أي في أجر الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر ﴿ فسترضع له أخرى ﴾ أي يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده ولا يجب عليه أن يسلم ما تطلبه الزوجة ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر قال الضحاك : إن أبت الأمر أن ترضع استأجر لولده أخرى فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر