خوف سبحانه الكفار بأنه قد أهلك من هو أشد منهم فقال : ١٣ - ﴿ وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم ﴾ قد قدمنا أن ﴿ كأين ﴾ مركبة من الكاف وأي وأنها بمعنى كم الخبرية : أي وكم من قرية وأنشد الأخفش قول الوليد :

( وكأين رأينا من ملوك وسوقة ومفتاح قيد للأسير المكبل )
ومعنى الآية : وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك التي أخرجوك منها أهلكناهم ﴿ فلا ناصر لهم ﴾ فبالأولى من هو أضعف منهم وهم قريش الذين هم أهل قرية النبي صلى الله عليه و سلم وهي مكة فالكلام على حذف المضاف كما في قوله :﴿ واسأل القرية ﴾ قال مقاتل : أي أهلكناهم بالعذاب حين كذبوا رسولهم
ثم ذكر سبحانه الفرق بين حال المؤمن وحال الكافر فقال : ١٤ - ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر كنظائره ومن مبتدأ والخبر ﴿ كمن زين له سوء عمله ﴾ وأفرد في هذا باعتبار لفظ من وجمع في قوله :﴿ واتبعوا أهواءهم ﴾ باعتبار معناها والمعنى : أنه لا يستوي من كان على يقين من ربه ولا يكون كمن زين له سوء عمله وهو عبادة الأوثان والإشراك بالله والعمل بمعاصي الله واتبعوا أهواءهم في عبادتها وانهمكوا في أنواع الضلالات بلا شبهة توجب الشك فضلا عن حجة نيرة
ثم لما بين سبحانه الفرق بين الفرقين في الاهتداء والضلال بين الفرق في مرجعهما ومآلهما فقال : ١٥ - ﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون ﴾ والجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة وبيان ما فيها ومعنى مثل الجنة وصفها العجيب الشأن وهو مبتدأ وخبره محذوف قال النضر بن شمي : تقديره ما يسمعون وقدره سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة قال : والمثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة وجملة ﴿ فيها أنهار من ماء غير آسن ﴾ الخ مفسرة للمثل وقيل إن مثل زائدة وقيل إن مثل الجنة مبتدأ والخبر فيها أنهار وقيل خبره كمن هو خالد والآسن المتغير يقال أسن الماء يأسن أسونا : إذا تغيرت رائحته ومثله الآجن ومنه قول زهير :
( قد أترك القرن مصفرا أنامله يميد في الرمح ميد المالح الأسن )
قرأ الجمهور ﴿ آسن ﴾ بالمد وقرأ حميد وابن كثير بالقصر وهما لغتان كحاذر وحذر وقال الأخفش : إن الممدود يراد به الاستقبال والمقصود يراد به الحال ﴿ وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ﴾ أي لم يحمض كما تغير ألبان الدنيا لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر ﴿ وأنهار من خمر لذة للشاربين ﴾ أي لذيذة لهم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون يقال شراب لذ ولذيذ وفيه لذة بمعنى ومثل هذه الآية قوله :﴿ بيضاء لذة للشاربين ﴾ قرأ الجمهور ﴿ لذة ﴾ بالجر صفة لخمر وقرئ بالنصب على أنه مصدر أو مفعول له وقرئ بالرفع صفة لأنهار ﴿ وأنهار من عسل مصفى ﴾ أي مصفى مما يخالطه من الشمع والقذى والعكر والكدر ﴿ ولهم فيها من كل الثمرات ﴾ أي لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل الثمرات : أي من كل صنف من أصنافها ومن زائدة للتوكيد ﴿ ومغفرة من ربهم ﴾ لذنوبهم وتنكير مغفرة للتعظيم : أي ولهم مغفرة عظيمة كائنة من ربهم ﴿ كمن هو خالد في النار ﴾ هو خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : أم من هو في نعيم الجنة على هذه الصفة خالدا فيها كمن هو خالد في النار أو خبر لقوله مثل الجنة كما تقدم ورجح الأول الفراء فقال : أراد أمن كان في هذا النعيم كما هو خالد في النار وقال الزجاج : أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطي هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار فقوله ﴿ كمن ﴾ بدل من قوله ﴿ أفمن زين له سوء عمله ﴾ وقال ابن كيسان : ليس مثل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم وليس مثل أهل الجنة في النعيم كمثل أهل النار في العذاب الأليم قوله :﴿ وسقوا ماء حميما ﴾ عطف على الصلة عطف جملة فعلية على اسمية لكنه راعى في الأولى لفظ من وفي الثانية معناها والحميم الماء الحار الشديد الغليان فإذا شربوه قطع أمعاءهم وهو معنى قوله :﴿ فقطع أمعاءهم ﴾ لفرط حرارته والأمعاء جمع معي وهي ما في البطون من الحوايا


الصفحة التالية
Icon