ثم ذكر سبحانه صفة الأتقى فقال : ١٨ - ﴿ الذي يؤتي ماله ﴾ أي يعطيه ويصرفه في وجوه الخير وقوله :﴿ يتزكى ﴾ في محل نصب على الحال من فاعل يؤتي : أي حال كونه يطلب أن يكون عند الله زكيا لا يطلب رياء ولا سمعة ويجوز أن يكون بدلا من يؤتى داخلا معه في حكم الصلة قرأ الجمهور ﴿ يتزكى ﴾ مضارع تزكى وقرأ علي بن الحسين بن علي تزكى بإدغام التاء في الزاي
١٩ - ﴿ وما لأحد عنده من نعمة تجزى ﴾ الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون التزكي على جهة الخلوص غير مشوب بشائبة تنافي الخلوص : أي ليس ممن يتصدق بماله ليجازى بصدقته نعمة لأحد من الناس عنده ويكافئه عليها وإنما يبتغي بصدقته وجه الله تعالى ومعنى الآية : أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازى عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها وإنما قال نجزي مضارعا مبنيا للمفعول لأجل الفواصل والأصل يجزيها إياه أو يجزيه إياها
٢٠ - ﴿ إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ﴾ قرأ الجمهور ﴿ إلا ابتغاء ﴾ بالنصب ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول له على المعنى : أي لا يؤتي إلا لابتغاء وجه ربه الأعلى ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول على التأويل : أي ما أعطيتك ابتغاء جزائك بل ابتغاء وجه الله وقرأ يحيى بن وثاب بالرفع على البدل من محل نعمة لأن محلها الرفع إما على الفاعلية وإما على الابتداء ومن مزيدة والرفع لغة تميم لأنهم يجوزون البدل في المنقطع ويجرونه مجرى المتصل قال مكي : وأجاز الفراء الرفع في ابتغاء على البدل من موضع نعمة وهو بعيد قال شهاب الدين : كأنه لم يطلع عليها قراءة واستبعاده هو البعيد فإنها لغة فاشية وقرأ الجمهور أيضا ابتغاء بمالد وقرأ ابن أبي عبلة بالقصر والأعلى نعت للرب
٢١ - ﴿ ولسوف يرضى ﴾ اللام هي الموطئة للقسم : أي وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم قرأ الجمهور ﴿ يرضى ﴾ مبنيا للفاعل وقرئ مبنيا للمفعول
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس ﴿ والليل إذا يغشى ﴾ قال : إذا أظلم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود قال : إن أبا بكر الصديق اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواق فأعتقه لله فأنزل الله ﴿ والليل إذا يغشى ﴾ إلى قوله :﴿ إن سعيكم لشتى ﴾ سعي أبي بكر وأمية وأبي إلى قوله :﴿ وكذب بالحسنى ﴾ قال : لا إله إلا الله إلى قوله :﴿ فسنيسره للعسرى ﴾ قال : النار وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله :﴿ فأما من أعطى ﴾ من الفضل ﴿ واتقى ﴾ قال : اتقى ربه ﴿ وصدق بالحسنى ﴾ قال : صدق بالخلف من الله ﴿ فسنيسره لليسرى ﴾ قال : للخير من الله ﴿ وأما من بخل واستغنى ﴾ قال : بخل بماله واستغنى عن ربه ﴿ وكذب بالحسنى ﴾ قال : بالخلف من الله ﴿ فسنيسره للعسرى ﴾ قال للشر من الله وأخرج ابن جرير عنه ﴿ وصدق بالحسنى ﴾ قال : أيقن بالخلف وأخرج ابن جرير عنه أيضا ﴿ وصدق بالحسنى ﴾ يقول : صدق بلا إله إلا الله ﴿ وأما من بخل واستغنى ﴾ يقول : من أغناه الله فلخل بالزكاة وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة وكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن فقال له أبوه : أي بني أراك تعتق أناسا ضعفا فلو أنك تعتق رجالا جلدا يقومون معك ويمنعوك ويدفعون عنك قال أي أبت إنما أريد ما عند الله قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه ﴿ فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى ﴾ وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله :﴿ فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى ﴾ قال : أبو بكر الصديق :﴿ وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى ﴾ قال : أبو سفيان بن حرب وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن علي بن أبي طالب قال : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في جنازة فقال [ ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة مقعده من النار فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ ﴿ فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى ﴾ إلى قوله ﴿ للعسرى ﴾ ] وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله [ أن سراقة بن مالك قال : يا رسول الله في أي شيء نعمل ؟ أفي شيء ثبتت فيه المقادير وجرت به الأقلام أم في شيء يستقبل فيه العمل ؟ قال : بلى في شيء ثبتت فيه المقادير وجرت فيه الأقلام قال سراقة : ففيم العمل إذن يا رسول الله ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له وقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية ﴿ فأما من أعطى واتقى ﴾ إلى قوله ﴿ فسنيسره للعسرى ﴾ ] وقد تقدم حديث عمران بن حصين في السورة التي قبل هذه وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال :[ لتدخلن الجنة إلا من يأبى قالوا : ومن يأبى أن يدخل الجنة ؟ فقرأ ﴿ الذي كذب وتولى ﴾ ] وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أمامة قال : لا يبقى أحد من هذه الأمة إلا أدخله الله الجنة إلا من شرد على الله كما يشرد البعير السوء على أهله فمن لم يدقني فإن الله يقول :﴿ لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى ﴾ كذب بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وتولى عنه وأخرج أحمد والحاكم والضياء عن أبي أمامة الباهلي أنه سئل عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ألا كلكم يدخل الله الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله ] وأخرج أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم :[ لا يدخل النار إلا شقي قيل ومن الشقي ؟ قال : الذي لا يعمل لله بطاعة ولا يترك لله معصية ] وأخرج أحمد والبخاري عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ] وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله : بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها وزنيرة وأم عيسى وأمة بني المؤمل وفيه نزلت ﴿ وسيجنبها الأتقى ﴾ إلى آخر السورة وأخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله بن الزبير ما قدمنا عنه وزاد فيه فنزلت فيه هذه الآية ﴿ فأما من أعطى واتقى ﴾ إلى قوله :﴿ وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى ﴾ وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عنه نحو هذا من وجه آخر وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ وسيجنبها الأتقى ﴾ قال : هو أبو بكر الصديق