قلنا: لما كان كلام العرب ينقسم إلى ما يمفهم معناه سريعاً ولا يحتمل غير ظاهره، وإلى ما هو مجاز وكناية وإشارة وتلويح والمعانى فيه متعارضة متزاحمة، وهذا القسم هو المستحسن عندهم والمستبدع
فى كلامهم نزل القرآن بالنوعين تحقيقاً لمعنى الاعجاز، كأنه قال عارضوه بأى النوعين شئتم فإنه جامع لهما، وأنزله الله محكماً ومتشابهاً ليختبر من يؤمن بكله ويرد علم ما تشابه منه إلى الله، فيثيبه، ومن يرتاب فيه ويشك وهو المنافق فيعاقبه، كما ابتلى عباده
بنهر طالوت وغيره أو أراد أن يشتغل العلماء برد المتشابه إلى المحكم بالنظر والاستدلال والبحث والاجتهاد فيثابون على هذه العبادة، ولو كان كله ظاهراً جلياً لاستوى فيه العلماء والجهال
ولماتت الخواطر لعدم البحث والاستنباط، فإن زناد الفكر إنما يقدح بزيادة المشكلات، ولهذا قال بعض الحكماء: عيب الغنى أنه يورث البلادة ويميت الخاطر، وفضيلة الفقر أنه يبعث على إعمال الفكر واستنباط الحيل في الكسب.
فإذ قيل: قول تعالى: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ). أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلى عدد نفسها أو بالعكس على إختلاف القولين وكيفما كان فهو مناف لقوله تعالى في سورة الأنفال: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ).
لأن يدل على أن الفئتين تساوتا في استقلال كل واحدة منهما للأخرى؟


الصفحة التالية
Icon