فلما جاء الملكوت المبشر على يد خاتم النبيين دخله كثيرون من هؤلاء الفقراء، وخالفه الأغنياء المتكبرون. وعلى ما قلنا شهادات في التوراة والإنجيل والقرآن وتاريخ المسيحيين. ولكن بسط ذلك في كتابنا (ملكوت الله) وغيره. فإنما الكلام ها هنا جر بنا اضطراراً، فلم يمكنا الصفح عنه بالكلية، ولا البسط له بالتمام، فإنه موكول إلى موضعه الجدير به.
وجملة القول أن نهي المسيح عن اليمين مطلقاً كان مخصوصاً بالذين كانوا على سنته. ولا ننكر ذلك، فإن امرأ تسلل عن التمدن بالكلية، وجمع جراميزه لملكوت عظيم ينتظره، يشتم ويلطم ويظلم فلا ينتقم. فهو لا يعامل ولا يجادل، فلا يقاول، فأي أمر يدعوه إلى الحلف؟ إنما يكون قوله لا لا ونعم ونعم.
ثم نقول : إن نهيه عن القسم كان أيضاً مخصوصاً من جهة المقسم عليه، كما يظهر من موقع كلامه. فإني لا أرى أنه عليه السلام نهى عن القسم على الحقائق الدينية، لأنه عليه السلام نفسه حسب رواية يوحنا أشهد الله تعالى على صدق رسالته. وهل القسم إلا الإشهاد؟
وكذلك ترى في القرآن أقسام صالحي النصارى المرسلين لتبيلغ الحق حيث جاء في سورة يس :(قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين).
فقولهم :(ربنا يعلم) قسم كما مر، وهو ظاهر.
هذا وفي ما مر من الفصول السابقة كفاية إن شاء الله تعالى لمن أراد جواب الشبهات. فإن فيما ذكرنا توفيقاً بين النقل والعقل تصديقاً بالتوراة والإنجيل والقرآن.
ومهما كان من اختلاف، فإنما هو من جهة الإتمام والتفصيل، وإقامة الوسط بين الإفراط والتفريط، ورعاية التمييز بين دقائق الأحكام عند تشابك النفع والضر.


الصفحة التالية
Icon