غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٨] قَالَ: وَقِيلَ: مِنْ لَاهَ يَلُوهُ: إِذَا احْتَجَبَ. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ أَلِهَ الْفَصِيلُ، إِذْ وَلِعَ بِأُمِّهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعِبَادَ مَأْلُوهُونَ مُولَعُونَ بِالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، قَالَ: وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَلِهَ الرَّجُلُ يَأْلُهُ: إِذَا فَزِعَ مِنْ أَمْرٍ نَزَلَ بِهِ فَأَلَّهَهُ، أَيْ: أَجَارَهُ، فَالْمُجِيرُ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ مِنْ كُلِّ الْمَضَارِّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٨]، وَهُوَ الْمُنْعِمُ لِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النَّحْلِ: ٥٣] وَهُوَ الْمُطْعِمُ لِقَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٤] وَهُوَ الْمُوجِدُ لِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النِّسَاءِ: ٧٨].
وَقَدِ اخْتَارَ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ غَيْرُ مُشْتَقٍّ الْبَتَّةَ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، ثُمَّ أَخَذَ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَقًّا لَاشْتَرَكَ فِي مَعْنَاهُ كَثِيرُونَ، وَمِنْهَا: أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَسْمَاءِ تُذْكَرُ صفات لَهُ، فَتَقُولُ: اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ، قَالَ: فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ﴾ [إِبْرَاهِيمِ: ١، ٢] عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْبَيَانِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٦٥]، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ عَلَى كَوْنِ هَذَا الِاسْمَ جَامِدًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى فَخْرُ الدِّينِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِبْرَانِيٌّ لَا عَرَبِيٌّ، ثُمَّ ضَعَّفَهُ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّضْعِيفِ كَمَا قَالَ، وَقَدْ حَكَى فَخْرُ الدِّينِ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَلْقَ قِسْمَانِ: وَاصِلُونَ إِلَى سَاحِلِ بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ، وَمَحْرُومُونَ قَدْ بَقُوا فِي ظُلُمَاتِ الْحَيْرَةِ وَتِيهِ الْجَهَالَةِ؛ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا عُقُولَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ، وَأَمَّا الْوَاجِدُونَ فَقَدْ وَصَلُوا إِلَى عَرْصَةِ النُّورِ وَفُسْحَةِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ، فَتَاهُوا فِي مَيَادِينِ الصَّمَدِيَّةِ، وَبَادُوا فِي عَرْصَةِ الْفَرْدَانِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهَمْ وَالِهُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ الْخَلْقَ يَأْلَهُونَ إِلَيْهِ بِنَصْبِ اللَّامِ وَجَرِّهَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الِارْتِفَاعِ، فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ: لَاهَا، وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ: لَاهَتْ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِلَهُ، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، فَالْتَقَتِ اللَّامُ الَّتِي هِيَ عَيْنُهَا مَعَ اللَّامِ الزَّائِدَةِ فِي أَوَّلِهَا لِلتَّعْرِيفِ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، فَصَارَتَا فِي اللَّفْظِ لَامًا وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً، وَفُخِّمَتْ تَعْظِيمًا، فَقِيلَ: اللَّهُ.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَرَحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ رَحِيمٍ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهِم حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا، وَفِي تَفْسِيرِ بَعْضِ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَثَرِ، عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: وَالرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ.


الصفحة التالية
Icon