قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: ٣] ؛ فَلِهَذَا وَجَّهَ [ابْنُ جَرِيرٍ] (١) هَذَا الْمَثَلَ بِأَنَّهُمُ استضاؤوا بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَعْقَبَهُمْ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ: وَصَحَّ ضَرْبُ مَثَلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ: ﴿رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [الْأَحْزَابِ: ١٩] أَيْ: كَدَوَرَانِ عَيْنَيِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لُقْمَانَ: ٢٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الْجُمُعَةِ: ٥]، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: مَثَلُ قِصَّتِهِمْ كَقِصَّةِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُسْتَوْقِدُ وَاحِدٌ لِجَمَاعَةٍ مَعَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي هَاهُنَا بِمَعْنَى الَّذِينَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ (٢)
قُلْتُ: وَقَدِ الْتَفَتَ فِي أَثْنَاءِ الْمَثَلِ مِنَ الْوَاحِدِ (٣) إِلَى الْجَمْعِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ وَهَذَا أَفْصَحُ فِي الْكَلَامِ، وَأَبْلَغُ فِي النِّظَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ أَيْ: ذَهَبَ عَنْهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَهُوَ النُّورُ، وَأَبْقَى لَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ، وَهُوَ الْإِحْرَاقُ وَالدُّخَانُ ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّكِّ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى سُبُلِ (٤) خَيْرٍ وَلَا يَعْرِفُونَهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ ﴿صُمٌّ﴾ لَا يَسْمَعُونَ خَيْرًا ﴿بُكْمٌ﴾ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ ﴿عُمْيٌ﴾ فِي ضَلَالَةِ وَعَمَايَةِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الْحَجِّ: ٤٦] فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ الَّتِي بَاعُوهَا بِالضَّلَالَةِ.
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ:
قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ زَعَمَ أَنَّ نَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مَقْدَم نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَافَقُوا، فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رجُل كَانَ فِي ظُلْمَةٍ، فَأَوْقَدَ نَارًا، فَأَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ مِنْ قَذَى، أَوْ أَذَى، فَأَبْصَرَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا يَتَّقِي مِنْهُ (٥) فَبَيْنَا (٦) هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طَفِئَتْ نَارُهُ، فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ أَذَى، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ: كَانَ فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ فَأَسْلَمَ، فَعَرَفَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَ [عَرَفَ] (٧) الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَبَيْنَا (٨) هُوَ كَذَلِكَ إِذْ كَفَرَ، فصار لا يعرف الحلال من
(١) زيادة من و.
(٢) البيت للأشهب بن رميلة، كما في اللسان، مادة "فلج".
(٣) في جـ، ط، ب، أ، و: "الوحدة".
(٤) في طـ، ب: "سبيل".
(٥) في جـ، ط، ب: "منها".
(٦) في أ، و: "فبينما".
(٧) زيادة من جـ.
(٨) في أ، و: "فبينما".


الصفحة التالية
Icon