فَالْفَاسِقُ يَشْمَلُ (١) الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ، وَلَكِنَّ فسْق الْكَافِرِ أَشَدُّ وَأَفْحَشُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْفَاسِقُ الْكَافِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بِدَلِيلِ (٢) أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتُ الْكُفَّارِ الْمُبَايِنَةُ لِصِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ الْآيَاتِ، إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرَّعْدِ: ١٩-٢٥].
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ الَّذِي وُصِفَ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ بِنَقْضِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَهْيِهِ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَنَقْضُهُمْ (٣) ذَلِكَ هُوَ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ (٤) فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ، وَعَهْدُ اللَّهِ الَّذِي نَقَضُوهُ هُوَ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بُعِثَ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ هُوَ جُحُودُهُمْ بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِيقَتِهِ وَإِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ، وَكِتْمَانِهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ [عَنِ] (٥) النَّاسِ بَعْدَ إِعْطَائِهِمُ اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْمِيثَاقَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوْلُ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ. وَعَهْدُهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ فِي تَوْحِيدِهِ: مَا وَضَعَ لَهُمْ (٦) مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَعَهْدُهُ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مَا احْتَجَّ بِهِ لِرُسُلِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا (٧) الشَّاهِدَةِ لَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ، قَالُوا: وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ: تَرْكُهُمُ (٨) الْإِقْرَارَ بِمَا ثَبَتَتْ لَهُمْ صِحَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ وَتَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ حَقٌّ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ (٩) نَحْوَ هَذَا، وَهُوَ حَسَنٌ، [وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْمُرَادُ بِعَهْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: مَا رَكَّزَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، كَأَنَّهُ أَمْرٌ وَصَّاهُمْ بِهِ وَوَثَّقَهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] إِذْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] (١٠).
وَقَالَ آخَرُونَ: الْعَهْدُ الَّذِي ذَكَرَهُ [اللَّهُ] (١١) تَعَالَى هُوَ الْعَهْدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من

(١) في جـ: "شمل".
(٢) في طـ: "الدليل".
(٣) في جـ: "وبغضهم".
(٤) في جـ: "هو".
(٥) زيادة من جـ، ط.
(٦) في جـ، ط: "إليهم".
(٧) في و: "بمثله".
(٨) في جـ: "عدم".
(٩) في جـ، ط، أ، و: "بن حيان أيضا".
(١٠) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(١١) زيادة من جـ.


الصفحة التالية
Icon