﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠) ﴾
يُخْبِرُ (١) تَعَالَى بِامْتِنَانِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ، بِتَنْوِيهِهِ بِذِكْرِهِمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى قَبْلَ إِيجَادِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾ أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَاقْصُصْ عَلَى قَوْمِكَ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ [وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ] (٢) أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ "إِذْ" هَاهُنَا زَائِدَةٌ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: وَقَالَ رَبُّكَ. وَرَدَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَذَا رَدَّهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ حَتَّى قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا اجْتِرَاءٌ (٣) مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ.
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ أَيْ: قَوْمًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٦٥] وَقَالَ ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ﴾ [النَّمْلِ: ٦٢]. وَقَالَ ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٦٠]. وَقَالَ ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ [مَرْيَمَ: ٥٩]. [وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيقَةً" حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَهَا الْقُرْطُبِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ] (٤). وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا بِالْخَلِيفَةِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَطْ، كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، بَلِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ، حَكَاهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ آدَمَ عَيْنًا إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسُنَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ فَإِنَّهُمْ (٥) إِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِعِلْمٍ خَاصٍّ، أَوْ بِمَا فَهِمُوهُ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَخْلُقُ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [أَوْ فَهِمُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الناس ويقع بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيَرُدُّ عَنْهُمُ الْمَحَارِمَ وَالْمَآثِمَ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ] (٦) أَوْ أَنَّهُمْ قَاسُوهُمْ عَلَى مَنْ سَبَقَ، كَمَا سَنَذْكُرُ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ هَذَا لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْحَسَدِ لِبَنِي آدَمَ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ [وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَهُ شَيْئًا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ وَهَاهُنَا لَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِيهَا فَقَالُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ الْآيَةَ] (٧) وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ وَاسْتِكْشَافٍ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، يَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا، مَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عِبَادَتُكَ، فَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، أَيْ: نُصَلِّي لَكَ كَمَا سَيَأْتِي، أَيْ: وَلَا يَصْدُرُ مِنَّا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَلَّا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْنَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ (٨) الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَذَا الصِّنْفِ عَلَى الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَّرْتُمُوهَا (٩) مَا لَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ؛ فَإِنِّي سَأَجْعَلُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَأُرْسِلُ فِيهِمُ الرُّسُلَ، وَيُوجَدُ فِيهِمُ
(٢) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(٣) في أ: "إجرام".
(٤) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(٥) في جـ، ب: "فإن الله".
(٦) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(٧) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(٨) في جـ: "بالمصلحة".
(٩) في جـ: "الذي ذكروها".