وَالْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي سَأَلْتُمْ لَيْسَ بِأَمْرٍ عَزِيزٍ، بَلْ هُوَ كَثِيرٌ فِي أَيِّ بَلَدٍ دَخَلْتُمُوهُ وَجَدْتُمُوهُ، فَلَيْسَ يُسَاوِي مَعَ دَنَاءَتِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي الْأَمْصَارِ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ أَيْ: مَا طَلَبْتُمْ، وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُهُمْ (١) هَذَا مِنْ بَابِ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ، لَمْ يُجَابُوا إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ أَيْ: وُضِعَتْ عَلَيْهِمْ وَأُلْزِمُوا بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، أَيْ: لَا يَزَالُونَ مُسْتَذَلِّينَ، مَنْ وَجَدَهُمُ اسْتَذَلَّهُمْ وَأَهَانَهُمْ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الصَّغَارَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّاءُ مُتَمَسْكِنُونَ (٢).
قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ النِّيَالَاتِ (٣) يَعْنِي أَصْحَابَ الْجِزْيَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ﴾ قَالَ: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٤)، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ قَالَ: الذُّلُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَذَلَّهُمُ اللَّهُ فَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَجَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَقَدْ أَدْرَكَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَإِنَّ الْمَجُوسَ لَتَجْبِيهِمُ الْجِزْيَةَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمَسْكَنَةُ الْفَاقَةُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: الْخَرَاجُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْجِزْيَةُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: فحدَثَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ يَقُولُ: اسْتَوْجَبُوا سُخْطًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ انْصَرَفُوا ورجعوا، ولا يقال: باؤوا إِلَّا مَوْصُولًا إِمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ، يُقَالُ مِنْهُ: بَاءَ فُلَانٌ بِذَنْبِهِ يَبُوءُ بِهِ بَوْءًا وَبَوَاءً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٢٩] يَعْنِي: تَنْصَرِفُ مُتَحَمِّلَهُمَا وَتَرْجِعُ بِهِمَا، قَدْ صَارَا عَلَيْكَ دُونِي. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: فَرَجَعُوا مُنْصَرِفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَبَ اللَّهِ، قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُخْطٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ يقول تعالى:

(١) في جـ، ط: "كان سألهم".
(٢) في جـ: "مستذلين"، وفي ط، أ، و: "مستكينين".
(٣) في جـ، طـ، و: "القبالات"، وفي أ: "السالات".
(٤) تفسير عبد الرزاق (١/ ٦٩).


الصفحة التالية
Icon