لِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، لَمَّا ارْتَفَعَ الْجِدَارُ أَتَاهُ إِسْمَاعِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِهِ ليقومَ فَوْقَهُ وَيُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ فَيَضَعُهَا بِيَدِهِ لِرَفْعِ الْجِدَارِ، كلَّما كَمَّل نَاحِيَةً انْتَقَلَ إِلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، يَطُوفُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ، كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ جِدَارٍ نَقَلَهُ إِلَى النَّاحِيَةِ التِي تَلِيهَا هَكَذَا، حَتَّى تَمَّ جِدَارَاتُ الْكَعْبَةِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ. وَكَانَتْ آثَارُ قَدَمَيْهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا مَعْرُوفًا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ اللَّامِيَّةِ:

ومَوطئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ (١)
وَقَدْ أَدْرَكَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا. وَقَالَ (٢) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: رَأَيْتُ الْمَقَامَ فِيهِ أَثَرُ أَصَابِعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وإخْمَص قَدَمَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيع، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ وَلَمْ يُؤَمَرُوا بِمَسْحِهِ. وَلَقَدْ تَكَلَّفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ شَيْئًا مَا تَكَلَّفَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَهَا، وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا مَنْ رَأَى أَثَرَ عَقِبِه وَأَصَابِعِهِ فِيهِ (٣) فَمَا زَالَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ يَمْسَحُونَهُ حَتَّى اخْلَوْلَقَ وَانْمَحَى.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ الْمَقَامُ مُلْصَقًا بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ قَدِيمًا، وَمَكَانُهُ مَعْرُوفٌ الْيَوْمَ إِلَى جَانِبِ الْبَابِ مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ يُمْنَةَ الدَّاخِلِ مِنَ الْبَابِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ هُنَاكَ، وَكَانَ الْخَلِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٤) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَضَعَهُ إِلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ أَوْ أَنَّهُ انْتَهَى عِنْدَهُ الْبِنَاءُ فَتَرَكَهُ هُنَاكَ؛ وَلِهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أُمِرَ بِالصَّلَاةِ هُنَاكَ عِنْدَ فَرَاغِ الطَّوَافِ، وَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ انْتَهَى بِنَاءُ الْكَعْبَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ عَنْ جِدَارِ الْكَعْبَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٥) [وَهُوَ] (٦) أحدُ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، الَّذِينَ أُمِرْنا بِاتِّبَاعِهِمْ، وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ فِيهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْتَدَوْا باللَّذَين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ". وَهُوَ الذِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِوِفَاقِهِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيج، حَدَّثَنِي عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: قَالُوا: أَوَّلُ مَنْ نَقَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٧) وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ معمر عن حَمِيد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن، عمر بن الخطاب رضي الله عنه (٨).
(١) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٧٣).
(٢) في جـ، ط: "كما قال".
(٣) في جـ، ط: "فيها".
(٤) في جـ: "عليه الصلاة والسلام".
(٥) في جـ: "رضي الله تعالى عنه".
(٦) زيادة من جـ.
(٧) المصنف لعبد الرزاق برقم (٨٩٥٥).
(٨) المصنف لعبد الرزاق برقم (٨٩٥٣).


الصفحة التالية