وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا﴾ يَقُولُ: وَمَنْ كَفَرَ فَأَرْزُقُهُ أَيْضًا ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا عَزَلَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، الدَّعْوَةَ عمَّن أَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْوِلَايَةَ -انْقِطَاعًا إِلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ، وَفِرَاقًا لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، حِينَ عَرَفَ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ ظَالِمٌ أَلَّا يَنَالَهُ عهدُه، بِخَبَرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ -قَالَ اللَّهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنِّي أَرْزُقُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ وَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا.
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ حُمَيد الخرَّاط، عَنْ عَمَّار الدُّهْني، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يحجُرها عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمَنْ كَفَرَ أَيْضًا أَرْزُقُهُمْ كَمَا أَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ أَأَخْلُقُ خَلْقًا لَا أَرْزُقُهُمْ؟! أُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٢٠]. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُويه. ورُوي عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ نَحْوَ ذَلِكَ أَيْضًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يُونُسَ: ٦٩، ٧٠]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لُقْمَانَ: ٢٣، ٢٤]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ* وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٣٣، ٣٥]
وَقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أَيْ: ثُمَّ أُلْجِئُهُ بَعْدَ مَتَاعِهِ فِي الدُّنْيَا وَبَسْطِنَا عَلَيْهِ مِنْ ظِلِّهَا إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْظرُهم ويُمْهلهُم ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [الْحَجِّ: ٤٨]، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ؛ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ" (١) وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي (٢) لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ". ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هُودٍ: ١٠٢] (٣).
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
(٢) في جـ، طـ: "يملي".
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٦٨٦) وصحيح مسلم برقم (٢٥٨٣) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه.