وَقَوْلُهُ: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] (١) ﴾ أَيِ: الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُمْ فَرحون (٢) مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْغِبْطَةِ، وَمُسْتَبْشِرُونَ (٣) بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ بَعْدَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يقدَمون عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ مِمَّا أَمَامَهُمْ وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ وَرَاءَهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾ أَيْ: ويُسَرون بِلُحُوقِ مَنْ خَلْفهم (٤) مِنْ إِخْوَانِهِمْ عَلَى مَا مَضَوْا عَلَيْهِ مِنْ جِهَادِهِمْ؛ لِيُشْرِكُوهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ.
[وَ] (٥) قَالَ السُّدِّيُّ: يُؤتى الشَّهِيدُ بِكِتَابٍ فِيهِ: "يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، ويَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، فَيُسَرُّ بِذَلِكَ كَمَا يُسَرُّ أَهْلُ الدُّنْيَا بِقُدُومِ غُيَّابِهِمْ" (٦).
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ ورَأوْا مَا فِيهَا مِنَ الْكَرَامَةِ لِلشُّهَدَاءِ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ فِي الدُّنْيَا يَعْلَمُونَ مَا عَرَفْنَاهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، فَإِذَا شهدوا للقتال (٧) باشروها بأنفسهم، حتى ويُستشهدوا فَيُصِيبُوا مَا أَصَبْنَا مِنَ الْخَيْرِ، فأُخبِر رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ -أَيْ رَبُّهُمْ-[أَنِّي] (٨) قَدْ أَنْزَلْتُ عَلَى نَبِيِّكُمْ وَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِكُمْ، وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ، فاستَبْشروا بِذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الْآيَةَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونة السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ، الَّذِينَ قُتِلُوا فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وقَنَت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ، يَدْعُو عَلَيْهِمْ ويَلْعَنهم، قَالَ أَنَسٌ: وَنَزَلَ فِيهِمْ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ حَتَّى رُفِعَ: "أنْ بَلغُوا عَنّا قَوْمَنا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنّا وأرْضَانا" (٩).
ثُمَّ قَالَ: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اسْتَبْشَرُوا وسُرّوا لِمَا عَايَنُوا مِنْ وَفَاءِ الْمَوْعُودِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتِ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ، سَوَاءً الشُّهَدَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وقَلَّما ذَكَرَ اللَّهُ فَضْلًا ذَكَرَ (١٠) بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَثَوَابًا أَعْطَاهُمْ إِلَّا ذَكَرَ مَا أَعْطَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ هَذَا كَانَ يَوْمَ "حَمْرَاءِ الْأَسَدِ"، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَصَابُوا مَا أَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَمَرُّوا (١١) فِي سَيْرِهِمْ تَنَدّمُوا لِمَ لَا تَمَّموا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَعَلُوهَا الْفَيْصَلَةَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الذَّهَابِ وَرَاءَهُمْ ليُرْعِبَهم وَيُرِيَهُمْ أَنَّ بِهِمْ قُوّةً وَجَلَدًا، وَلَمْ يأذنْ لِأَحَدٍ سِوَى مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، سِوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -لِمَا سَنَذْكُرُهُ-فَانْتَدَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْإِثْخَانِ طَاعَةً لِلَّهِ [عَزَّ وجل] (١٢) ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
(٢) في أ: "فرحين" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
(٣) في جـ، ر، أ: "ويستبشرون".
(٤) في جـ، ر، أ، و: "لحقهم".
(٥) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(٦) في جـ، ر، أ، و: "غايبهم".
(٧) في أ، و: "القتال".
(٨) زيادة من جـ، ر.
(٩) صحيح البخاري برقم (٢٨٠١، ٤٠٩٥) وصحيح مسلم برقم (٦٧٧).
(١٠) في جـ، ر: "ذكرته".
(١١) في أ: "استقروا".
(١٢) زيادة من و.