الْأَسْوَدَ لِبَنِي الْحَجَّاجِ عَنْ عِدَّةِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: كَثِيرٌ، قَالَ: "كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ " قَالَ: يَوْمًا تِسْعًا (١) وَيَوْمًا عَشْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ" (٢).
وَرَوَى (٣) أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: كَانُوا أَلْفًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى هَذَا فَيُشْكَلُ هَذَا الْقَوْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَكِنْ وَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا، وَجَعْلَهُ صَحِيحًا كَمَا تَقُولُ: عِنْدِي أَلْفٌ وَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَى مِثْلَيْهَا، وَتَكُونُ (٤) مُحْتَاجًا إِلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، كَذَا قَالَ. وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ.
لَكِنْ بَقِيَ سُؤَالٌ آخَرُ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا﴾ ؟ [الْأَنْفَالِ: ٤٤] وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا كَانَ فِي حَالٍ، وَالْآخَرُ كَانَ فِي حَالٍ (٥) أُخْرَى، كَمَا قَالَ السُّدِّي، عَنِ [مرة] الطَّيِّبِ (٦) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ] (٧) ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَقَدْ نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يُضْعَفون عَلَيْنَا، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (٨) تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَانِبِي (٩) تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً. قَالَ: فَأَسَرْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ فَقُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفَا. فَعِنْدَمَا عَايَنَ كُلُّ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْهِمْ، أَيْ: أَكْثَرُ مِنْهُمْ بِالضِّعْفِ، لِيَتَوَكَّلُوا وَيَتَوَجَّهُوا وَيَطْلُبُوا الْإِعَانَةَ مِنْ رَبِّهِمْ، عَزَّ وَجَلَّ. وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الرُّعْبُ وَالْخَوْفُ وَالْجَزَعُ وَالْهَلَعُ، ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ التَّصَافُّ (١٠) وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ قَلَّلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ فِي أَعْيُنِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ فِي أَعْيُنِ هَؤُلَاءِ، لِيُقْدِمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ.
﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا﴾ أَيْ: لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَيُظْهِرَ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ عَلَى الْكُفْرِ، وَيُعِزَّ الْمُؤْمِنِينَ وَيُذِلَّ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢٣] وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ﴾ أَيْ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَمُعْتَبَرًا لِمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ وَفَهْمٌ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقَدَرِهِ الْجَارِي بِنَصْرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.
(٢) السيرة النبوية لابن هشام (١/٦١٦).
(٣) في أ: "قال".
(٤) في أ:"ويكون".
(٥) في أ، و: "حالة".
(٦) في هـ: "عن الطيب".
(٧) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(٨) في جـ، ر، أ، و: "قول".
(٩) في جـ، ر: "جنبي".
(١٠) في أ، و: "المصاف".
..
نَحْمَد اللَّهَ وَحْدَهُ... إِنَّ فِي ذَا لَمُعْتَبَرْ...
إِنَّ فِي ذَا لَعبرةً... لِلَبِيبٍ إِنِ اعْتَبَرْ...
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَا يَعْتَبِرُ بِمَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ وَآيَاتِهِ، فَقَالَ: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ. وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٥، ١٠٦] وَمَدَحَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ قَائِلِينَ ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا﴾ أَيْ: مَا خَلَقْتَ هَذَا الْخَلْقَ عَبَثًا، بَلْ بالحق لتجزي (١) الذين أساؤوا بِمَا عَمِلُوا، وَتَجْزِيَ (٢) الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. ثُمَّ نَزَّهُوهُ عَنِ الْعَبَثِ وَخَلْقِ الْبَاطِلِ فَقَالُوا: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أَيْ: عَنْ أَنْ تَخْلُقَ شَيْئًا بَاطِلًا ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أَيْ: يَا مَنْ خَلَق الْخَلْقَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ يَا مَنْ هُوَ مُنزه عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعَيْبِ وَالْعَبَثِ، قِنَا مِنْ (٣) عَذَابِ النَّارِ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقيضْنَا لِأَعْمَالٍ تَرْضَى بِهَا عَنَّا، وَوَفِّقْنَا لِعَمَلٍ صَالِحٍ تَهْدِينَا بِهِ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَتُجِيرُنَا بِهِ مِنْ عَذَابِكَ الْأَلِيمِ.
ثُمَّ قَالُوا: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أَيْ: أَهَنْتَهُ وَأَظْهَرْتَ خِزْيَهُ لِأَهْلِ الْجَمْعِ ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا مُجِير لَهُمْ مِنْكَ، وَلَا مُحِيد لَهُمْ عَمَّا أَرَدْتَ بِهِمْ.
﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ﴾ أَيْ: دَاعِيًا يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ أَيْ يَقُولُ: ﴿آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ أَيْ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَاتَّبَعْنَاهُ ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أَيْ: بِإِيمَانِنَا وَاتِّبَاعِنَا نَبِيَّكَ فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، أَيِ: اسْتُرْهَا ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ﴾ أَيْ: أَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ: عَلَى الْإِيمَانِ بِرُسُلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ. وَهَذَا أَظْهَرُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عِقَال، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَسْقَلان أَحَدُ الْعَرُوسَيْنِ، يَبْعَثُ اللَّهُ مِنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ (٤) أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَيَبْعَثُ مِنْهَا خَمْسِينَ (٥) أَلْفًا شُهَدَاءَ وُفُودًا إِلَى اللَّهِ، وَبِهَا صُفُوف الشهداء، رؤوسهم مُقَّطعة فِي أَيْدِيهِمْ، تَثِجّ أَوْدَاجُهُمْ دَمًا، يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ فَيَقُولُ: صَدَق عَبْدِي، اغْسِلُوهُمْ بِنَهْرِ الْبَيْضَةِ. فَيَخْرُجُونَ مِنْهُ نَقَاءً بِيضًا، فَيَسْرَحُونَ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شاؤوا".
وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعد مِنْ غَرَائِبِ الْمُسْنَدِ، وَمِنْهُمْ من يجعله موضوعا، والله أعلم (٦).
(٢) في ر، أ، و: "يجزي".
(٣) في أ: "فقنا".
(٤) في ر: "سبعون".
(٥) في جـ، ر، أ: "خمسون".
(٦) المسند (٣/٢٢٥) وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (٢/٥٤) وقال: "هذا حديث لا يصح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجميع طرقه تدور على أبي عقال واسمه: هلال بن زيد بن يسار. قال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة ما حدث أنس بها قط، لا يجوز الاحتجاج به بحال"، وذكره الذهبي في الميزان (٤/٣١٣) وقال: "باطل". وانظر كلام الحافظ ابن حجر في: القول المسدد برقم (٨) فقد ذكر أن الحديث في فضائل الأعمال والتحريض على الرباط في سبيل الله وأن التسامح في رواية مثله طريقة الإمام أحمد -رحمه الله- ثم ساق له شواهد، فراجعها إن شئت.