فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعْرف المساءةُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا" ثَلَاثًا.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ (١)
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا: أَنَّ الْقَاتِلَ لَهُ تَوْبَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ تَابَ وَأَنَابَ وَخَشَعَ وَخَضَعَ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، وَعَوَّضَ الْمَقْتُولَ مِنْ ظُلَامَتِهِ وَأَرْضَاهُ عَنْ طِلَابَتِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا] (٢). إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا [فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] (٣) ﴾ [الْفَرْقَانِ: ٦٨، ٦٩] وَهَذَا خَبَرٌ لَا يَجُوزُ نُسْخُهُ. وَحَمْلُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَحْتَاجُ حَمْلُهُ إِلَى دَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (٤) ﴾ [الزُّمَرِ: ٥٣] وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ، مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ، وَشَكٍّ وَنِفَاقٍ، وَقَتْلٍ وَفِسْقٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: كُلُّ مَنْ تَابَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النِّسَاءِ: ٤٨]. فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ مَا عَدَا الشِّرْكَ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَهَا، لِتَقْوِيَةِ الرَّجَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَبَرُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟! ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى بَلَدٍ يَعْبد اللَّهَ فِيهِ، فَهَاجَرَ إِلَيْهِ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. كَمَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، إِنْ (٥) كَانَ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلأن يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنَّا الْأَغْلَالَ وَالْآصَارَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، وَبَعَثَ نَبِيَّنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. فَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] (٦) ﴾ فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَامِعٍ الْعَطَّارِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ مَيْمُونٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ حَجَّاجٍ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ (٧) وَمَعْنَى هَذِهِ الصِّيغَةِ: أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جُوزِيَ عَلَيْهِ، وَكَذَا كُلُّ وَعِيدٍ عَلَى ذَنْبٍ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ مُعَارض مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ تَمْنَعُ وُصُولَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ، عَلَى قَوْلَيْ أَصْحَابِ الْمُوَازَنَةِ أَوِ الْإِحْبَاطِ. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُسْلَكُ فِي بَابِ الْوَعِيدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَبِتَقْدِيرِ دُخُولِ
(٢) زيادة من ر، أ، وفي هـ "إلى قوله".
(٣) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(٤) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(٥) في ر: "إذا".
(٦) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(٧) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣١٠) "مجمع البحرين" مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَامِعٍ الْعَطَّارِ عَنِ العلاء بن ميمون به، وفي إسناده العلاء بن ميمون، ومحمد بن جامع العطار وهما ضعيفان.