صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ". فَقَامَ وَهُوَ يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَيْهِ، فَمَا مَضَتْ لَهُ سَابِعَةٌ حَتَّى مَاتَ، وَدَفَنُوهُ، فَلَفَظَتْهُ (١) الْأَرْضُ، فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنَّ الْأَرْضَ تَقَبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَنْ صَاحَبِكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَعِظَكُمْ مِنْ جرمتكم" ثُمَّ طَرَحُوهُ بَيْنَ صَدَفَيْ جَبَلٍ (٢) وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَنَزَلْتُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيَن آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُم فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ الْآيَةَ (٣).
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَة، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (٤) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمِقْدَادِ: "إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فقتلتَه، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ".
هَكَذَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَلَّقًا مُخْتَصَرًا (٥) وَقَدْ رُوِيَ مُطَوَّلًا مَوْصُولًا فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ:
حدثنا حماد (٦) بْنُ عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيِّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيِّ (٧) بْنِ مُقَدَّم، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، فِيهَا الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا أَتَوُا الْقَوْمَ وَجَدُوهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا، وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ يَبْرَحْ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَهْوَى (٨) إِلَيْهِ الْمِقْدَادُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَقَتَلْتَ رَجُلًا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَاللَّهِ لأذكرَن ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ رَجُلًا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ. فَقَالَ: "ادْعُوَا لِي الْمِقْدَادَ. يَا مِقْدَادُ، أَقَتَلْتَ رَجُلًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَدًا؟ ". قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمِقْدَادِ: "كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ، فقتلْتَه، وَكَذَلِكَ كُنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ قُبَلُ" (٩).
وَقَوْلُهُ: ﴿فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ أَيْ: خَيْرٌ مِمَّا رَغِبْتُمْ فِيهِ مِنْ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى قَتْلِ مِثْلِ هَذَا الَّذِي أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ، وَأَظْهَرَ إِلَيْكُمُ (١٠) الْإِيمَانَ، فَتَغَافَلْتُمْ عَنْهُ، وَاتَّهَمْتُمُوهُ بِالْمُصَانَعَةِ وَالتَّقِيَّةِ؛ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمَغَانِمِ الْحَلَّالِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ مَالِ هَذَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: قَدْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ (١١) الْحَالِ كَهَذَا (١٢) الذي
(٢) في ر، أ: "ثم طرحوه في جبل".
(٣) تفسير الطبري (٩/٧٢).
(٤) في د، أ: "النبي".
(٥) صحيح البخاري برقم (٦٨٦٦).
(٦) في ر، أ: "حمدان".
(٧) في أ: "عامر".
(٨) في د: "فأهوى".
(٩) مسند البزار برقم (٢٢٠٢) "كشف الأستار" وقال الْبَزَّارُ: "لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ولا له عنه إلا هذا الطريق" وقال الهيثمي في المجمع (٧/٨) :"إسناده جيد".
(١٠) في ر: "لكم".
(١١) في أ: "هذا".
(١٢) في ر: "لهذا".