قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ: أَنَّ عِيسَى حِينَ جَاءَهُ (١) مِنَ اللَّهِ ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ عَلَى أَنْ (٢) يُشَبَّهَ لِلْقَوْمِ فِي صُورَتِي، فَيَقْتُلُوهُ فِي مَكَانِي؟ فَقَالَ سِرْجِسُ: أَنَا، يَا رُوحَ اللَّهِ. قَالَ: فَاجْلِسْ فِي مَجْلِسِي. فَجَلَسَ فِيهِ، ورفِع عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ، فَكَانَ هُوَ الَّذِي صَلَبُوهُ وشُبّه لَهُمْ بِهِ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ حِينَ دَخَلُوا مَعَ عِيسَى مَعْلُومَةً، قَدْ رَأَوْهُمْ وَأَحْصَوْا عِدَّتَهُمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ وَجَدُوا عِيسَى، فِيمَا يُرَون وَأَصْحَابَهُ، وَفَقَدُوا رَجُلًا مِنَ الْعِدَّةِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ عِيسَى، حَتَّى جَعَلُوا لِيُودِسَ زَكَرِيَّا يُوطَا ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ وَيُعَرِّفَهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنِّي سَأقَبلهُ، وَهُوَ الَّذِي أُقَبِّلُ، فَخُذُوهُ. فَلَمَّا دَخَلُوا وَقَدْ رُفِعَ عِيسَى، ورأى سرجس في صورة عيسى، فلم يشكل (٣) أَنَّهُ عِيسَى، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ (٤) فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ.
ثُمَّ إِنْ يُودِسَ زَكَرِيَّا يُوطَا نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاخْتَنَقَ بِحَبْلٍ حَتَّى قَتَلَ نَفْسَهُ، وَهُوَ مَلْعُونٌ فِي النَّصَارَى، وَقَدْ كَانَ أَحَدَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبَعْضُ النَّصَارَى يَزْعُمُ أَنَّ يُودِسَ زَكَرِيَّا يُوطَا هُوَ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ، فَصَلَبُوهُ وَهُوَ يَقُولُ: "إِنِّي لَسْتُ بِصَاحِبِكُمْ. أَنَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ". وَاللَّهُ (٥) أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ (٦).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: صَلَبُوا رَجُلًا شَبَّهُوهُ بِعِيسَى، وَرَفَعَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ حَيًّا.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ شَبَهَ عِيسَى أُلْقِيَ عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذلك: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ يَعْنِي بِعِيسَى ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يَعْنِي: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى-يُوَجه ذَلِكَ إِلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ يُصَدِّقُونَ بِهِ إِذَا نَزَلَ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، فَتَصِيرُ الْمِلَلُ كُلُّهَا وَاحِدَةً، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةُ، دِينُ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حُصَين، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ (٧).
وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قَالَ: ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَبْقَى أَحَدٌ من أهل الكتاب إلا آمن به.

(١) في ر، أ: "جاءه الوحي".
(٢) في ر: "حتى".
(٣) في أ: "يشكك".
(٤) في أ: "فقتله".
(٥) في ر: "فالله".
(٦) رواه الطبري في تفسيره (٩/٣٧١) من طريق سلمة عن ابن إسحاق به.
(٧) تفسير الطبري (٩/٣٨٠).


الصفحة التالية
Icon