مَا كَانَ جَاهِلًا بِهِ، فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِيمَانًا نَافِعًا لَهُ، إِذَا كَانَ قَدْ شَاهَدَ الْمَلَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي [أَوَّلِ] (١) هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ] ﴾ الْآيَةَ [النِّسَاءِ: ١٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأَْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بَاللهِ وَحْدَهُ [وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا] (٢) ﴾ الْآيَتَيْنِ (٣) [غَافِرٍ: ٨٤، ٨٥] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رَدِّ (٤) هَذَا الْقَوْلِ، حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَذَا، لَكَانَ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ أَوْ بِالْمَسِيحِ، مِمَّنْ كَفَرَ بِهِمَا -يَكُونُ عَلَى دِينِهِمَا، وَحِينَئِذٍ لَا يَرِثُهُ أَقْرِبَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. فَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِيمَانِهِ فِي حَالَةٍ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَوْ تَرَدَّى مِنْ شَاهِقٍ أَوْ ضُرب بِسَيْفٍ أَوِ افْتَرَسَهُ سَبُع، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ بِعِيسَى" فَالْإِيمَانُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَاتِ لَيْسَ بِنَافِعٍ، وَلَا يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ كَفْرِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَنْ تأهل هَذَا جَيِّدًا وَأَمْعَنَ النَّظَرَ، اتَّضَحَ لَهُ أَنَّ هَذَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْوَاقِعَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ المرادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَذَا، بَلِ الْمُرَادُ بِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْرِيرِ وُجُودِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَقَاءِ حَيَاتِهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِيُكَذِّبَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ تَبَايَنَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ وَتَضَادَّتْ وَتَعَاكَسَتْ وَتَنَاقَضَتْ، وَخَلَتْ عَنِ الْحَقِّ، فَفَرَّطَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَأَفْرَطَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى: تَنَقَّصه الْيَهُودُ بِمَا رَمَوْهُ بِهِ وَأَمَّهُ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَأَطْرَاهُ النَّصَارَى بِحَيْثُ ادَّعَوْا فِيهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، فَرَفَعُوهُ فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ عَنْ مَقَامِ النُّبُوَّةِ إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَنَزَّهَ وتَقَدّس لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ:
قَالَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، مِنْ صَحِيحِهِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ: (نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ-عَلَيْهِ السَّلَامُ) : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشكَنّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ خَيْرًا (٥) مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا". ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إن شئتم: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْحَسَنِ (٦) الحُلْواني وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ كِلَاهُمَا، عَنْ يَعْقُوبَ، بِهِ (٧) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (٨) وَأَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ (٩) وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ فيكم ابنُ مريم حكمًا عدلا

(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: "الآية".
(٤) في د: "رده".
(٥) في أ: "خير".
(٦) في ر: "حسن".
(٧) صحيح البخاري برقم (٣٤٤٨) وصحيح مسلم برقم (١٥٥).
(٨) صحيح البخاري برقم (٢٤٧٦) وصحيح مسلم برقم (١٥٥).
(٩) صحيح البخاري برقم (٢٢٢٢) وصحيح مسلم برقم (١٥٥).


الصفحة التالية
Icon