فَاسْتَغْنَى كُلُّ فَقِيرٍ أَكَلَ مِنْهَا، وَبَرِئَ كُلُّ زَمِنٍ أَكَلَ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَالُوا أَغْنِيَاءَ صِحَاحًا حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا.
وَنَدِمَ الْحَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا نَدَامَةً، سَالَتْ مِنْهَا أَشْفَارُهُمْ، وَبَقِيَتْ حَسْرَتُهَا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَمَاتِ، قَالَ: فَكَانَتِ الْمَائِدَةُ إِذَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ يَسْعَوْنَ يُزَاحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ، وَالصِّغَارُ (١) وَالْكِبَارُ، وَالْأَصِحَّاءُ وَالْمَرْضَى، يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ جَعَلَهَا نَوَائِبَ، تَنْزِلُ يَوْمًا وَلَا تَنْزِلُ يَوْمًا. فَلَبِثُوا فِي ذَلِكَ (٢) أَرْبَعِينَ يَوْمًا، تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ غِبًّا عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضُحَى (٣) فَلَا تَزَالُ مَوْضُوعَةً يُؤْكَلُ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا قَامُوا ارْتَفَعَتْ عَنْهُمْ. (٤) بِإِذْنِ اللَّهِ إِلَى جَوِّ السَّمَاءِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى ظِلِّهَا فِي الْأَرْضِ حَتَّى تُوَارَى عَنْهُمْ.
قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنِ اجْعَلْ رِزْقِيَ الْمَائِدَةَ (٥) لِلْيَتَامَى وَالْفُقَرَاءِ والزَّمنَى دُونَ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ ارْتَابَ بِهَا الْأَغْنِيَاءُ مِنَ النَّاسِ، وغَمطُوا ذَلِكَ، حَتَّى شَكُّوا فِيهَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَشَكَّكُوا فِيهَا النَّاسَ، وَأَذَاعُوا فِي أَمْرِهَا الْقَبِيحَ وَالْمُنْكَرَ، وَأَدْرَكَ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ حَاجَتَهُ، وَقَذَفَ وَسْوَاسَهُ فِي قُلُوبِ الْمُرْتَابِينَ (٦) حَتَّى قَالُوا لِعِيسَى: أَخْبِرْنَا عَنِ الْمَائِدَةِ، وَنُزُولِهَا مِنَ السَّمَاءِ أَحَقٌّ، فَإِنَّهُ قَدِ ارْتَابَ بِهَا بَشَرٌ مِنَّا كَثِيرٌ؟ فَقَالَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلَكْتُمْ وَإِلَهِ الْمَسِيحِ! طَلَبْتُمُ الْمَائِدَةَ إِلَى نَبِيِّكُمْ أَنْ يَطْلُبَهَا لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، فَلَمَّا أَنْ فَعَلَ وَأَنْزَلَهَا عَلَيْكُمْ رَحْمَةً وَرِزْقًا، وَأَرَاكُمْ فِيهَا (٧) الْآيَاتِ والعبَر كذَّبْتم بِهَا، وَشَكَّكْتُمْ فِيهَا، فَأَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ، فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِكُمْ إِلَّا أَنْ يَرْحَمَكُمُ اللَّهُ.
وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي آخُذُ الْمُكَذِّبِينَ بِشَرْطِي، فَإِنِّي مُعَذِّبٌ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِالْمَائِدَةِ بَعْدَ نُزُولِهَا عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. قَالَ فَلَمَّا أَمْسَى الْمُرْتَابُونَ بِهَا وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ مَعَ نِسَائِهِمْ آمِنِينَ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ مَسَخَهُمُ اللَّهُ خَنَازِيرَ، فَأَصْبَحُوا يَتَّبِعُونَ الْأَقْذَارَ فِي الْكَنَّاسَاتِ.
هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ جِدًّا. (٨) قَطَّعَه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ جَمَعْتُهُ أَنَا لَهُ لِيَكُونَ سِيَاقُهُ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيَّامَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، إِجَابَةً مِنَ اللَّهِ لِدَعْوَتِهِ، وَكَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ الآية.

(١) في د: "والضعفاء".
(٢) في د: "على ذلك".
(٣) في د: "النهار".
(٤) في د: "بينهم".
(٥) في د: "في المائدة".
(٦) في د: "الربانيين".
(٧) في د: "منها".
(٨) ورواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول كما في تفسير القرطبي (٦/٣٦٩) من طريق زكريا بن حكيم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أبي عثمان النهدي، عن سلمان بنحوه، وقال القرطبي: "وفي هذا الحديث مقال ولا يصح من جهة إسناده".


الصفحة التالية
Icon